تعود معرفتي بالدكتور محمد الرميحي لما يقارب الخمسة عقود، أي تحديدًا في عام 1973، عندما كنت طالبًا في جامعة الكويت. وكان الدكتور الرميحي قد عاد من بعثته الدراسية في بريطانيا بعد حصوله على الدكتوراه من إحدى أعرق الجامعات البريطانية، وهي جامعة درهم.
كان شابًا يافعًا ملتحقًا بجامعة الكويت كأستاذ لعلم الاجتماع السياسي. ولم يبدُ منذ ذلك الوقت تقليديًا على الأقل في مظهره الخارجي، إذ كان يرتدي، وبخلاف السائد في ذلك الوقت في الكويت، اللباس الأفرنجي (أي البدلة وربطة العنق). وكانت تبدو صورته بذقنه الصغير وصلعته اللامعة أقرب إلى «الباحث الراهب». وكان ذلك جديدًا ليس علينا فقط، وإنما على زملائنا من الطلبة الكويتيين. وكان ذلك في أن يرتدي أستاذ جامعي كويتي لباسًا أفرنجيًا، وكان حينها واحدًا من مجموعة صغيرة جدًا من الكويتيين الذين قد لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليد الواحدة، والذين اعتادوا على ارتداء اللباس الأفرنجي، مثل الوزير والمستشار السابق المرحوم عبد العزيز حسين، والوزير السابق الأستاذ سليمان المطوع، ومذيع النشرة الإنجليزية السابق الأستاذ سليمان كلندر.
كان حينها قسم علم الاجتماع جزءًا من قسم متعدد التخصصات. إذ كان يضم هذا القسم تخصصات أخرى مثل علم النفس وعلم الأنثروبولوجيا والفلسفة. وكان القسم جزءًا من كلية متعددة التخصصات تضم مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية والتربوية، وكان يطلق عليها «كلية الآداب والتربية»، وكان عميدها أحد الأساتذة العرب المعروفين. وكان أعضاء القسم والكلية في غالبهم من الأساتذة العرب من مصر والعراق وسوريا وفلسطين. من الشخصيات التي استطاعت أن تسجل اسمها في قائمة أفضل الأساتذة في مجالات تخصصاتهم الإنسانية والاجتماعية والتربوية على مستوى المنطقة العربية. وكانت علاقاتهم بطلبتهم تتسم بدرجة كبيرة من الرسمية التي تفصل بين الأستاذ والطالب. وهي علاقة قد شكلت فيما شكلته كذلك قدرًا من العلاقة العلمية التي يمكن أن تربط بين الأستاذ والطالب. إذ كانت العلاقة تميل إلى الاتجاه الواحد، ولم تكن تتسم بما يُسمى بالتغذية الراجعة إلا في البعض منهم. وكان بعضهم قد بدا عليه آثار العمر والكهولة من الذين قضوا جل عمرهم في الدراسة والبحث.
وقد أضفى وصول الدكتور الرميحي على القسم قدرًا من الشبابية، حيث تميز بدماثة خلقه وتواضعه. كما ارتبط بعلاقات اتسمت بقدر كبير من التسامح والقبول بالتنوع الفكري والسياسي. وكانت علاقته بالطلبة قد اتسمت بالأخوة، وقدم بها نموذجًا جديدًا من العلاقة غير التقليدية التي شكلت العلاقة بين الأستاذ والطالب. إذ كان يعتاد حينها على دعوة بعض من طلبته إلى منزله. كما كان يفتح فصوله لنقاشات عامة حول قضايا ومشكلات قائمة في المجتمع، وكان يشرك بعض طلبته في تقديم عروض من مراجع يحددها عن القضايا التي ستتناولها محاضرته. كما ابتعد عن نمط الكتب المدرسية الذي كان يتبعه الكثير من أساتذتنا الجامعيين حتى وقتنا الحاضر. حيث شجع طلابه على الاطلاع على مصادر ومعلومات وأفكار جديدة خارج الكتاب الجامعي. بمعنى أن الدكتور الرميحي شجع طلابه على الاطلاع على الكتابات النقدية وغير التقليدية في أبحاثهم وفي مشاريعهم البحثية. وكان هذا جديدًا على العملية التعليمية في الجامعة في ذلك الوقت.
تميز عن الكثير من الأساتذة الآخرين بدعوة بعض من المسؤولين والمختصين من الكويتيين والخليجيين من خارج الجامعة لتقديم رؤاهم حول المشكلات والقضايا التي يواجهها المجتمع الكويتي والخليجي بشكل عام في فصوله الدراسية.
كما أشرت سابقًا، وبخلاف الكثير من أساتذة تلك المرحلة الزمنية، ارتبط بعلاقات صداقة مع طلابه، وكان قريبًا منهم يوجههم ويشجعهم ويأخذ بيدهم ويساعدهم في دراساتهم وفي مستقبلهم الوظيفي. وقد كنت أحد هؤلاء الطلبة الذين أعجبوا بشخصيته وعلمه وأخلاقه، وارتبطت به بعلاقة صداقة امتدت لنحو خمسة عقود.
أعتقد أن دخول الدكتور الرميحي للعمل الجامعي قد مثّل له تحديًا مهمًا شكّل مع السنين نمط شخصيته وطوّر الكثير من قراءاته وأفكاره وتحليلاته ومواقفه من الأحداث السياسية ومن المشكلات والقضايا الاجتماعية. فلم يكن في سنوات السبعينات بعيدًا عن مخاض وصراع الأفكار والتوجهات القومية والاشتراكية، حيث وجد نفسه في لحظة متفقًا مع بعضها، وهو اتفاق لم يستمر طويلاً لينفتح بعدها على الأطروحات الجديدة في العالم والمنطقة العربية، خصوصًا من خلال مقاله الشهري في مجلة «العربي» بعد توليه رئاسة تحريرها، حيث دخل في أثرها في قراءات متعمقة في التراث والفكر العربي والإسلامي، كما في متابعاته للأطروحات الفكرية والثقافية الجديدة على مستوى العالم، بالإضافة إلى قراءاته المتعمقة للتطورات العميقة والأطروحات الجديدة التي جاءت على علم الاجتماع بشكل عام، من قراءات ومن ثم كتابات كانت متأثرة حينها بالأطروحات الفكرية والسياسية السائدة في مرحلة السبعينات، إلى الانفتاح على المداخل الفكرية والمعرفية المتعددة في الكتابة والبحث في الاجتماع والثقافة.
ولا بد لي قبل أن أختم هذا المقال من الإشارة ليس فقط إلى مساهماته الفكرية والبحثية المتعددة التي امتدت لأكثر من خمسة عقود، وإنما أيضًا إلى دوره الطليعي وعمله الدؤوب على ابتكار وتطوير ما بات يعرف في المجال الأكاديمي الآن وفي الكثير من جامعات العالم بـ «مجال دراسات الخليج العربي». وقد مثّل هذا الاهتمام هَمًّا تطور معه منذ سنواته الأولى في جامعة الكويت في كتاباته وقراءاته. وتمثلت مبادرته منذ سبعينات القرن الماضي في إنشاء «مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية»، وهي واحدة من المبادرات الرائدة في متابعة كل التطورات التي تمر بها المنطقة. وهو ما حمله مع آخرين ودفعهم نحو تشكيل تجمع فكري ضم مفكرين ومثقفين خليجيين من أصحاب القرار ومن التجار المتنورين المهتمين بقضايا ومشكلات التنمية والدولة والمجتمع في المنطقة. وهو منتدى استمر مع الوقت رغم ما واجهه من مشكلات ومعوقات. وهو ذات الموضوع الذي دفعه نحو تبني أطروحة الوحدة الخليجية التي تحققت جزئيًا بإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وهو ذات الهم والتطلع الذي شاركه فيه آخرون على مستوى المنطقة من أمثال الدكتور علي فخرو والأستاذ عبد الله بشارة والدكتور علي الكواري والدكتور عبد العزيز الجلال والدكتور عبد العزيز الدخيل، ومجموعة عريضة من مثقفي المنطقة.
وإن كان هذا المقال جزءًا من عدد خاص من الملحق الثقافي بصحيفة الجزيرة السعودية احتفاءً بتتويجه في منتدى الإعلام العربي كشخصية العام الإعلامية، إلا أنني أعتقد أن دوره التنويري والثقافي في المنطقة بحاجة إلى عمل ونشاط أكبر وأوسع، قد يتمثل في تنظيم ندوة فكرية موسعة تناقش إسهاماته الفكرية والثقافية، وإصدار كتاب يحتفي به كقَامة فكرية وثقافية بارزة في منطقة الخليج والمنطقة العربية، أو إطلاق اسمه على أحد المراكز الثقافية أو تأسيس أحدها باسمه، أو على مركز لدراسات الخليج العربي في الكويت أو منطقة الخليج العربي.
** **
- باقر النجار