د.نادية هناوي
أشار مؤرخو الأدب إلى وجود تحولات فنية عديدة طرأت على مسار القصيدة العربية وأسهمت في توطيد عموديتها تارة وغيرت رسوخية هذا العمود تارة أخرى. وسبب هذه التحولات هو الغناء لما له من أثر مهم في بناء القصيدة. ونظرة فاحصة في كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني ستؤكد أن أغراض الشعر العربي في كل عصر تكيفت بالطريقة التي تناسب احتياجات الأغنية. ولقد أسهم الغناء إبان عصر ازدهار الحضارة العربية في ظهور طائفة الشعراء الجوالين وهم يرحلون في البلدان شرقا وغربا عارضين بضاعتهم الشعرية على المغنين ببراعة جعلت الخواص يستذوقون الشعر الشعبي مثلما جعلت العوام يتعلقون بالشعر الفصيح.
وما كان للشعر العربي أن يوصف بالغنائية لأنه ذاتي ووجداني حسب، بل لتبعية موسيقاه للأغنية التي يظل لها فعلها في بناء القصيدة الفصيحة وتوجيه الذائقة الشعرية. وما كان للغزل أن يشيع في الشعر العربي كما أن القصيدة ما مالت إلى القصر والقصصية وتوظيف السوقي والهزلي إلا تأثرا بما تقتضيه الأغنية من متطلبات وما تريد أن تلجه من آفاق، سعى الشعر الفصيح الكلاسيكي إلى تلبيتها كي تظل له الهيمنة على الشعر الشعبي الذي ينبغي أن يبقى مبتذلا وهامشيا.
ولا شك في أن للمفردة أهميتها في توجيه الذائقة نحو الشعر الفصيح، فلا تكون المسافة بعيدة بينه وبين الشعر الشعبي وبومضات حية تصمد بوجه الزمن. ولقد أكد الشاعر الكبير الجواهري أن في النطق بما هو شعبي صمودا للشعر الفصيح يضمن له المستقبلية الوثابة في حمل التراث كمواقد للفكر وتجريب الحياة وهو القائل إن لـ(سحر الكلمة نفاذا في النفوس فعالا في الضمائر أخاذا بتلابيب المجتمعات فإذا هي منتفضة على نفسها قبل أن تنتفض على أنظمة وكيانات الحكم فيها ثم إذا هي وقد استقرت على أسس جديدة وأنظمة حديثة ومفاهيم راسخة.. في كل ما تتمتع به من أمن ورخاء وضمان لفكرة الأديب الخلاق ولكلمته الوضاءة الهزازة ولفكرته الخالدة خلود الحياة نفسها). (من مقالته: المفردة حياة حافلة وليست حروفا، 1961)
وما من عصر يشهد رخاء إلا كانت للغناء فيه نهضة تنعكس بدورها على الشعر فيتطور بدءا من العصر الجاهلي ومرورا بالعصر العباسي ووصولا إلى عصر الدول والإمارات في الأندلس التي فيها شاع الغناء لا في الأعياد والمواسم حسب، بل على مدار الليالي والأيام ومعه طرأت على شعر الغزل وغير الغزل تحولات فنية، يقول شوقي ضيف: (كانت الأندلس العربية دار غناء كبيرة وشاع الغزل وصار يغنى لا في المدن العربية بل المسيحية أيضا وبالحالتين كان فصيحا كان الشعر يدور على لسان الرجال والنساء وكثرت الشاعرات مثل ولادة وكانت الجواري يتقن نظم الشعر.. كان بالأندلس كما كان بالعراق شعراء جوالون من أهل الكدية والشحاذة الأدبية يطوفون بالبلدان يتكسبون بأشعارهم مما يدل على تعلق العامة بالشعر الفصيح وأصحابه).
وهذا الدور الذي لعبه الشعراء الجوالون في تقريب المسافة بين الفصيح والشعبي من جهة والشعري والموسيقي من جهة أخرى لعبه أيضا شعراء التروبادور الذين أشاعوا الموشح الأندلسي في أوروبا في العصور الوسطى. ولقد تطور الشعر الأوروبي الحديث مع تطور الأغنية على يد الرومانسيين الإنجليز والألمان الذين فضلوا النثر لوضوحه على الشعر لصرامة ايقاعيته.
ولا ننسى أن غوته أصر على ضرورة أن يكتب الشعر نثرا، وهاجم الذين يتعاطفون فكريا مع الشعر؛ لأن الشعر- برأيه - نموذج طفولي التصق بالعهود البدائية وهكذا تراجعت نخبوية القصيدة الكلاسيكية وصعدت بدلها المقطعات الغنائية. وحين تجاوزت الأغنية الأوروبية رومانسيتها وصارت تبحث عن نخبويتها استعاد الشعر ايقاعيته ففرض ت. س. اليوت التقاليد النثرية في مقالته (حدود النثر) وحدد الفروق الحادة بين الايقاعين الشعري والنثري منتقصا القصيدة النثرية بوصفها مزجا بين صيغتين مؤكدا أن التمييز بين الشعر والنثر ينبغي أن يكون تمييزا تقنيا.
وبتحرر الشعر من النثر عادت الإيقاعية إلى الشعر الأوروبي وتأكدت جذوره التاريخية الغنائية والعاطفية التروبادورية. ولقد جسدت الأغنية الفصيحة هذه الحقيقة الفنية والتاريخية كما في كثير من الموشحات الفيروزية التي داومت على مزج الشعر الأندلسي بالواقع المعيش فاقترضت من القصائد الأندلسية أشعارا تتسم بطوابع شعبية من ناحية وضوح الألفاظ ويسر الصور ورقتها، مقدمة للجمهور قصيدة مفصحة. ولا خلاف في أن الأغنية العربية استلهمت التراث الشعري وأفادت من الشعر الحديث، فغنت أم كلثوم مطولات كلاسيكية وكذلك فعل محمد عبد الوهاب، بيد أن الأغنية الفيروزية تميزت في أنها استلهمت من الشعر الأندلسي الكثير، نظرا لما يمتاز به من البساطة وتعدد الأوزان كما غنت لشعراء معاصرين استلهموا قصائدهم من التراث الأندلسي أو بنوها على قالب الموشح كبشارة الخوري الذي غنت له فيروز قصيدة (قد أتاك يعتذر) وغنت لرفيق خوري قصيدته (ارجعي يا ألف ليلة) وغنت لسعيد عقل قصيدته (اذكريني) التي كتبها على غرار موشح ابن زهر هذا فضلا عن توظيف التراث الشعري المشرقي كأشعار جميل بثينة وابن سناء الملك وشعراء آخرين مغمورين قدماء ومحدثين.
ومما راهنت عليه الأغنية الفصيحة توجيه الذائقة الشعرية إلى تقليد فني قائم بذاته دشنته كأساس ثقافي وبنت عليه شتى الألوان النغمية والموسيقية ببراعة صوت فيروز وجاذبيته. فقصيدة ابن جبير(أقول وآنست بالليل نارا) توصل بين المشرق العربي ومغربه في شكل رحلة تبدأ من الأندلس وتنتهي بمكة وحج الكعبة. وقد أكسب صوت فيروز القصيدة طابعا جماليا ورمزيا حبب الشعر الفصيح للناس من جهة، وأكد من جهة أخرى أن البلاد العربية واحدة مهما باعدت بينها الحدود المصطنعة.
وما نجاح الأغنية الفيروزية في تفصيح أو بالأحرى تصحيح الذائقة الفنية للجمهور العربي سوى تأكيد لفرضية أثر الغناء في التحولات الشعرية في القصيدة الفصيحة والشعبية. ولم يكن استلهام الأغنية الفصيحة للتراث الموسيقي العربي بمنعزل عن الحداثة في الأغنية الأوروبية الحديثة إنما كان متزامنا. الأمر الذي أثر في الذائقة الشعرية للجمهور العربي ووجه الأغنية نحو مضامير جمالية جديدة، فيها يكون التباري على الأوزان وتعدد القوافي مع تجريب قوالب موسيقية قديمة وبطريقة ليس فيها تصنع رومانسي ولا تهافت وجداني مع الحذر من الانزلاق باتجاه التجريب الرخو أو الفائض وضبابية التعبير الجاف والمراوغ.
وكثير من المغنين اليوم ينقادون إلى ركب العولمة فيتبعون الموسيقى الغربية، جاهلين تراثنا الموسيقي في عصره الذهبي وفيه ألف الفارابي كتابه (الموسيقى الكبير) وابتكر عرب الأندلس قالب الموشح كي يعبر عن أحاسيسهم. وإذا كانت الحركة الحداثية في شعرنا العربي المعاصر قد نجحت في توجيه الذائقة نحو الشعر الأوروبي، فان الأغنية نجحت في توجيه هذه الذائقة نحو الشعر الأندلسي والمشرقي معززة الحداثة بالتراث.