سهام القحطاني
«من لا يُنصف بعيره لا يُنصف الناس»
الملك عبدالعزيزآل سعود-طيب الله ثراه-
الحيوانات هي جزء من حضارة الإنسان،وحينا تصاحبت معه في صناعة حضارته، فقد خلدتها الأمم على جدار كهوفهم وحكايات تراثهم، ومنذ القدم اكتشف الإنسان خصائص الحيوانات وقاربها بطبائع البشر، ولعل قول عنترة بن شداد أشهر هذه المقاربة عندما قال:
اليوم تعلم يا نعمان أيَ فتىً
يلقى أخاك الذي قد غرّه العُصَبُ
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها
عند التقلب في أنيابها العطب
والعرب منذ فجرهم التاريخي ارتبطوا بحيوانات مخصوصة تتناسب مع بيئتهم الجغرافية وطبيعة حياتهم المعيشية مثل الإبل والغنم والخيل، ولكل منها دلالة في حياة العربي عبر هنا الحديث النبويّ «الإبل عزٌّ لأهلها، والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة».
وهذا الارتباط وصل لتكون تلك الحيوانات جزءا من تراثهم الثقافي؛ فهي منذ البدء كانت لكل عربي العون في السفر والصحبة في الوحدة والشريك الوجداني في حكايات الحزن والفرح والشريك الثقافي في الإبداع، والونيس في ليل الصحراء الطويل الصامت، وهذا التشخيص ليس بمبالغة تقدير ووصف إنما تقرير لعلاقة العربي بالحيوان الذي أنسنها واستأنسها.
و يتصدر قائمة تلك الحيوانات «الإبل» فلم تكن مجرد «ركوبة» عند العربي بل رمزية تمثيل لتراثه وتجاربه، وقد خلّد شعره هذه القيمة الإنسانية والثقافية للإبل.
حتى أصبحت مضرب مثل لاشتراطية قيمة الشعر عند العرب،لكون الشعر كان للعربي ممثلا لقيمة وجودية؛ فقيل: «لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين»،وهذه الاشتراطيّة أكبر دليل لقيمة الإبل كشريك ثقافي للعربي.
فكانت الإبل مصاحبة للعربي في حلّه وترحاله وسعده وألمه، كما كانت شاهد عيان على لقاءات حبه وآهات فراقه وبكاءات طلله.
قد كرّم الشاعر العربي في جاهليته الإبل كشريك ثقافي بحيث جعلها جزءا من منهجيته الشعرية وواقعيته الثقافية،فلا قصيدة بدون وصف «راحلة الشاعر»والذي يتفنن في وصف جمالها وقوتها، كقول طرفة بن العبد وهو يصف مجموعا من الإبل التي تحمل محبوبته ويشبه تلك الإبل بالسفن العظيمة.
كأن حدوج المالكيًة غُدوةَ
خلايا سفين بالنواصف من دد
عدوليّة أو من سفين ابن يامن
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
وتعددت الرمزيات الممثلة للفظ الإبل التي استخدمها الشاعر العربي سواء بالصفة أو بالوظيفة، وهذا دليل على تمدد تأثير الإبل في جميع جوانب حياة العربي.
ولا يوجد شاعر عربي في العهد القديم من الجاهليّة إلى العصر العباسي إلا وذكر الإبل في شعره، سواء من باب الواقعية الثقافية أو تقليد المنهج الشعريّ أو ترسيخ نسقيتها كشريك ثقافي.
وكانت الإبل هي رمز لكرامة صاحبها و قبيلته، وهو ما يُفسر لنا «حرب البسوس» بين قبيلتي تغلب بن وائل و بني شيبان، وهي الحرب الضروس التي قامت ليس من أجل «ناقة البسوس» بل من أجل الرمزية الوجودية لتلك الناقة باعتبارها معادلا للكرامة وتجاوزا لسيادة الأنا و الآخر.
ومن طريف القول الذي يوضح جليا قيمة الشراكة الوجدانية للإبل مع صاحبها كما الشراكة الثقافية، قول المنخل اليشكري:
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
وقد ميّز العرب بين خصائص الجمل وخصائص الناقة، واستهجنوا كل من لا يعرف الفرق بينهما ولو في الشعر، وفي هذا المقام نستذكر قصة طرفة بن العبد مع الشاعر المتلمّس الذي أنشد شعره في مجلس كان طرفة حاضرا فيه فقال:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة بعد سماع هذا البيت «لقد استنوق الجمل»
«فناجي» صفة لخيار الإبل، و»الصيعرية» علامة في عنق الناقة، وهي وسم خاص بقبيلة صعير كانت تضعه على رقاب النوق دون الجمال الفحول،وهذا دليل على مدى ثقافة طرفة في أصناف الإبل وسماتها،كما لا تخلو تلك العلامة النسقية من التأكيد على أفضليّة الفحولة حتى في الإبل.
وارتباط العربي في جاهليته بالإبل استثمرها النص القرآني «كواقعيّة دلالية للتأمل في قدرة الله على الخلق «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»-الغاشية 17-
لم تكن الإبل حيوانا عابرا على خارطة حياة العربي تلاشت مع الواقعية النهضوية للعرب سواء بعد الفتوحات والاستقرار في المدن وظهورحيوانات أكثر تناسبية مع تلك الواقعية الجديدة،أو في عصورهم المتتابعة حتى اليوم.
بل ظلت واقعية حيّة كتراثa وشراكة ثقافية مستدامة وإن اختلفت مظاهرها، تراث يميّز حضارة عربي الجزيرة العربية عن غيره وعراقته وأصالته، ويرسخ عزته كما أشار الحديث النبوي.