أ.د. محمد خير محمود البقاعي
تجاذبت مع صديقي الإعلامي ابن تدمر محمد العبدالله أطراف الحديث، واستدعينا الذكريات، ولم يدركنا النوم إلا في ساعة متأخرة، كان اليوم التالي ليوم وصولي هو يوم الأحد، وهو يوم عطلة في بلغاريا.
وعندما استيقظت لم أجد صديقي الذي عاد بعد حين وهو يحمل الخبز الطازج، وأعددنا الفطور كما كنا نفعل أيام الجامعة في سكن الفحامة، وخرجنا بعد الفطور فزرنا مواقع أثرية ودينية منها مسجد صوفيا الكبير وغير ذلك من معالم العاصمة البلغارية، وطلبت من صديقي أن يختار لنا مطعماً لطعام الغداء، واصطحبني إلى مقهى أعاد إلينا ذكرى مقهى الروضة في دمشق والتقينا هناك بعض الطلبة والمغتربين السوريين والعرب، ولم نعد إلى السكن إلا في وقت متأخر. صحوت في وقت مبكر ويبدو أنه القلق، والتشوق للقاء السيدة التي ستتولى كتابة الموضوع بالفرنسية. يممت وجهي بصحبة الصديق محمد إلى المكتبة الوطنية حيث ضربنا موعداً. لقيتنا السيدة بابتسامة هادئة، وبعد حديث المجاملة والتعارف بالفرنسية حيناً وبالبلغارية حيناً آخر. وأخبرتني أنها بدأت بالعمل منذ أن أخبرها صديقي بالأمر، وأن الموضوع مهم، وهي سعيدة لقيامها بالعمل عليه، وتوقعت الانتهاء منه خلال أسبوع، سرني الأمر، واتفقنا على المبلغ المطلوب، وتحدثنا في أمور شتى عن الثقافة البلغارية وعلاقتها الوثيقة بتركيا إبان الحكم العثماني، وامتد بنا الحديث ولم نشعر بمرور الوقت، وكان علينا المغادرة على أن تسلمني ما أعدته خلال أسبوع. ورافقتنا للاطلاع على مقتنيات المكتبة وما تحويه من كتب ومخطوطات، منها 3680 مخطوطة عربية في غاية النفاسة؛ منها: شرح اللمع للأصفهاني أبي الحسن علي بن الحسين الباقولي المتوفى سنة 543 هـ، وقد صدر بتحقيق الدكتور إبراهيم بن محمد أبو عباة. 1411هـ/1990م.
ولصديقنا الأستاذ الدكتور محمد بن خالد الفاضل -حفظه الله - حديث طريف عن تصوير مخطوطة هذا الكتاب. وجامع العلوم الباقولي هو أيضاً صاحب كتب جليلة أشهرها الكتاب الذي حققه صديقنا الأستاذ الدكتور محمد أحمد الدالي (1953-2021م) -رحمه الله- وعنوانه: «كشف المشكلات وإيضاح المعضلات، في إعراب القرآن الكريم، وعلل القراءات» ونشره مجمع اللغة العربية في دمشق 1995م/1415هـ، وكان الكتاب قد نشر منسوبا إلى الزجاج بعنوان: «إعراب القرآن» بتحقيق إبراهيم الأبياري وصحح نسبته الأستاذ علامة الشام أحمد راتب النفاخ 1927-1992م -رحمه الله- في بحث من حلقتين بعنوان: «كتاب إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج: تحقيق نسبه واسمه، وتعريف بمؤلفاته واستكمال لتحقيق بعض أبوابه، مجلة مجمع اللغة العربية - دمشق مج 8، ج 3، 4، 1973م/1393هـ، ص 840-863 .
ثم حصل الدكتور الدالي -رحمه الله- على درجة الدكتوراه في تحقيق الكتاب ونسبته ودراسته من جامعة دمشق عام 1988م. لقد كان علي انتظار انتهاء السيدة من الكتابة، وعلى صديقي الالتحاق بعمله، وكانت فرصة للتردد على المكتبة الوطنية ومتابعة الاطلاع على فهارس المخطوطات العربية ومراجعة ما تزخر به من نوادر. مضى الوقت سريعاًَ، وأنجزت السيدة ما اتفقنا عليه والتقينا في اليوم المحدد وراجعت ما كتبت فوجدته عملاً متقناً فدفعت لها ما اتفقنا عليه، وغادرت المكتبة؛ إذ كنت على موعد مع صديقي لحجز مكان على القطار الذي سيحملني من صوفيا إلى بوخارست لحضور المؤتمر، وكان قطاراً ليلياً، فيه مقصورات للنوم لأن المسافة تحتاج 10 ساعات لقطعها، فضلاً عن مدة الانتظار للمراقبة في محطة الوصول. كانت المقصورة تحتوي ثلاثة أسرة بعضها فوق بعض وكان معي شابتان علمت أنهما من ألبانيا وتدرسان في بوخارست وتعرف إحداهما بعض الفرنسية وكانت تترجم للأخرى، فمضى الوقت سريعاً ولم أخلد إلى النوم في السرير الأعلى إلا سويعات صحوت بعدها وقد توقف القطار خارج المحطة لمراقبة التأشيرات، فاستغرق ذلك بعض الوقت قبل أن يتابع القطار رحلته إلى المحطة النهائية في بوخارست. حملت حقيبتي وجلست في مقهى لتناول الفطور والقهوة وسألت الاستعلامات الذين فرحوا لسماعهم اللغة الفرنسية لأسأل عن القطار الذي يحملني إلى بيت أهل زوجة ابن عمي، ولما حصلت على المعلومات اتصلت برقم الهاتف للاستعلام عن المؤتمر ومكان انعقاده وترتيب الإقامة؟ وقد كانت المفاجأة أن أخبرني المتحدث بتأجيل المؤتمر وأنهم أرسلوا بذلك إلى عنواني في حمص فأخبرتهم أنني كنت مسافراً ولم أتلق رسالتهم فاعتذروا وأبدوا استعدادهم لأي مساعدة فشكرت لهم مبادرتهم، وعزمت على المغادرة إلى مدينة أهل زوجة ابن عمي وكانت تقضي هناك عطلتها مع ابنها وابنتها، فاتصلت فردت علي إيرينا وهو اسمها فرحبت بي وسألتني عن المؤتمر فأخبرتها بتأجيله ففرحت وقالت إذن تركب القطار الآن فنحن بانتظارك ويحتاج وصوله إلى منطقتنا أربع ساعات، وسأكون بانتظارك في المحطة مع سمر وزياد، اتفقنا على ذلك وذهبت لشراء بطاقة أول قطار مغادر فأخبروني أنه بعد ساعة، فتم الأمر وعدت إلى المقهى للانتظار.
ولما حان الموعد ركبت القطار الذي احتاج إلى ساعتين للوصول، حيث وجدت الأسرة بانتظاري فركبنا الحافلة إلى البيت، كنت منهكاً وبحاجة إلى النوم فلاحظت السيدة ذلك وأشارت إلى غرفة قالت هذه غرفة ابن عمك أبي زياد وستقيم فيها، حملت حقيبتي ولم يطل الأمر حتى كنت في سبات عميق.
قضيت في رومانيا أياماً جميلة كان دليلي فيها السيدة زوجة ابن عمي وابنتها سمر وابنها زياد، وقد رافقوني إلى بوخارست، حيث أقمنا في منزل إحدى صديقات الزوجة التي كانت في رحلة إلى أوروبا، وزرنا فيها المكتبة الوطنية وقصر رئيس رومانيا المخلوع شاوشيسكو الذي تحول إلى متحف كما زرنا الجامعة والتقيت بمجموعة من أساتذة اللغة العربية ممن كان من المفترض أن نلتقي بهم في المؤتمر المؤجل.
ولما حان يوم العودة رافقوني إلى المطار، وركبت الطائرة إلى دمشق ومن هناك في اليوم نفسه إلى حمص.
كان ينبغي أن أخلد إلى الراحة بعض الوقت وهو ما حصل. ولما استعدت نشاطي اتصلت بالدكتور مازن وأخبرته بالتفاصيل واتفقنا على اللقاء الذي جرى في اليوم نفسه، إذ زارني في مكتبتي واستعرضنا ما أنجزته ففرح، وقال: حان الآن وقت إنجاز العمل بترجمة الفصل ومراجعة الكتاب قبل إيصاله إلى صاحب الفكرة والخطة وممول كل ذلك. أبديت استعدادي لإنجاز ذلك في أقرب فرصة. مر شهر على وصولي إلى مكتبتي بعد رحلة الذئب في آداب الشعوب.
ومن طرائف ما مر بي خلال مراجعتي الكتاب بعد الانتهاء من ترجمة الفصل الذي كانت الرحلة لإنجازه أنني راجعت الفصل المخصص للذئب في الأدب العربي، وبدا لي أنه محكم الكتابة جيد التوثيق يكاد يكون جامعاً لموضوعه، وذكرت أنني مر بي شيء من ذلك إبان إقامتي في مكتبة أستاذي العلامة الدكتور محمد رضوان الداية -حفظه الله- في أحد أعداد مجلة «المورد» العراقية، فأردت التثبت من ذلك، وبحثت لدى الأصدقاء ممن أعرف عنايتهم بالمجلة المذكورة فأتحفني بالعدد المطلوب الصديق المجمعي العلامة الأستاذ الدكتور عبدالإله نبهان -رحمه الله- وقد تكلّف عناء البحث فيما يملكه من أعداد المجلة، وكان من حسن توفيق الله أنه عثر على العدد الذي نشر فيه البحث الذي بعنوان «قراءة عصرية في أدب الذئب عند العرب» بقلم: عناد غزوان؛ رقم العدد: 1؛ تاريخ الإصدار:1 فبراير 1979م؛ ص 81-103 . واتضح عند المقارنة أن من تكلّف بكتابة البحث وهو عراقي مقيم في سورية قد سطا على البحث بقضه وقضيضه، فسارعت إلى إخبار الدكتور مازن بذلك، ولما اطلع على الواقعة بادرني بالقول: أجمع كل ذلك وسنزور صاحب الشأن لنطلعه على ذلك. وفي اليوم المحدد حدث اللقاء وبعد التثبت والاطلاع اقترحت أن نعيد الكتابة مع الاتساع في المصادر التي يكون على رأسها البحث المذكور منسوباً إلى صاحبه على أن نخصص لذلك الوقت المناسب. استحسن صاحب الشأن الفكرة ووافق على منح الوقت اللازم.
وأنجزت المطلوب في الوقت المتفق عليه، وسلمته للدكتور مازن الذي مضى به إلى صاحب الشأن الذي يبدو أنه قرأه قراءة دقيقة، وأضاف إضافات مهمة أثبتت في الكتاب الذي صدر عن دار طلاس عام 1996م. وكانت أخبار الكتاب قد انقطعت عني بعد انتهاء مدة خدمتي العسكرية في عام 1995م. وسفر الدكتور مازن إلى جامعة البحرين، ومغادرتي بعد مدة في عام صدور الكتاب إلى المملكة العربية السعودية.
وقد قرأت مراجعة للكتاب في سنة صدوره في مجلة «القافلة» بعنوان: «قراءة في كتاب الذئب في آداب الشعوب» كتبها محمد يوسف أيوب، مج 48، ع 8، 1999م/1420هـ، ص 34-37 .
وصدر في المملكة بعد زمن 2012م الكتاب الممتع الجامع للصديق الأستاذ الدكتور فضل بن عمار العماري وعنوانه: «الذئب في الأدب العربي» دار نشر جامعة الملك سعود، 1433هـ/2012م.