أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
مَن يقارن مقدِّمة (الشريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)- وهو الكاتب الشاعر، والمترسِّل البارز في زمنه - لكتاب «نَهْج البلاغة» بما ينسبه بعدئذٍ إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، يلحظ أنَّ المقدِّمة ومتن «النَّهْج» بأسلوبٍ واحد: جُمَلًا قصارًا، في سجعتَين سجعتَين، أو ثلاث، على طريقة كتَّاب ذلك العصر.
هكذا استأنف بنا (ذو القُروح) مساقه الجديد. قلتُ:
ـ وماذا بَعد؟
ـ مَن يقرأ «النَّهْج» أيضًا يجده في بعضه أشبه بمقامات (بديع الزمان الهمداني، -398هـ= 1007م)، المعاصر لـ(الشَّريف الرَّضِي)، من حيث النَّظْم؛ فيتأكَّد له أنه ليس بأسلوب ابن أبي طالب، ولا بأسلوب العصر الذي عاش فيه، بل هو أسلوب مترسِّلي القرن الرابع الهجري.
ـ ولقد اختلف الدارسون المؤرِّخون في مُنبثَق فنِّ (المقامات الأدبيَّة)، من ناسبٍ ريادتها إلى (بديع الزمان)، وذاهب إلى أنَّ البديع إنَّما حذا حذو اللُّغويِّ (ابن دريد، -321هـ= 933م) في أحاديثه.
ـ صحيح. ولو صحَّت نِسبة «النَّهْج» إلى (أبي الحَسن)، لكان الأَولى، إذن، أن تقول إنه، في نسيجه الأسلوبي، رائد فنِّ المقامات! وما على القارئ إلَّا أن يطالع في «النَّهْج»، مثلًا، ما جاء في قِصَّة خلق آدم، وخلق الكون، وغيرهما، ليجد أنَّ الأسلوب هو الأسلوب، في فنِّ المقامات وهذا الضرب من «النَّهْج».
ـ هلَّا مثَّلتَ؟
ـ انظر، مثلًا، كيف يصف فريضة الحَج: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِه الحَرام، الذي جعلَه قِبْلَةً للأنام، يَرِدُونه وُرودَ الأنعام، ويَأْلَهون إليه وُلُوْهَ الحَمام. جعلَه، سبحانه، علامةً لتواضُعهم لعَظَمته، وإذعانهم لِعِزَّته. واختارَ مِن خَلقِه سُمَّاعًا أجابوا إليه دعوته، وصَدَّقوا كلمته، ووقفوا مواقفَ أنبيائه، وتشبَّهوا بملائكته، المُطيفين بعَرشه؛ يُحرِزون الأرباحَ في مَتْجَر عِبادته، ويَتبادرون عند موعد مغفرته. جعلَه، سبحانه وتعالى، للإسلام عَلَمًا، والعائذين حَرَمًا، فَرَضَ حَجَّه، وأوجبَ حَقَّه.»(1)
ـ وكأنَّ السجعة الأخيرة، «حَجَّه» و«حَقَّه»، إنَّما قيلت باللهجة المِصْريَّة؛ بقلب الجيم قافًا!
ـ على كلِّ حال، لقد ضاع أكثر النثر العَرَبي؛ لأنَّه لم يكن مكتوبًا قبل الإسلام، كما ضاع أكثر النثر الإسلامي، الذي لم يُكتب. وهو ما اقتضى تصحيح الحديث النبوي، بقدر المستطاع، بعد عقود من الرواية الشفويَّة، لحفظ ما صحَّ منه، بل إنَّ الشِّعر- الذي حِفظه في الصدور أسهل من حِفظ النثر بمراحل - قد اعتراه ما اعتراه من كَذِبٍ ووضْعٍ وانتحال.
فماذا عن «النَّهْج»؟ أكان مكتوبًا منذ قاله (عَليٌّ)؟ فأين المخطوطات؟ أم كان مرويًّا؟ فمن رُواته؟ وأين الأسانيد؟
ـ غير أنَّ النقد الداخلي للنصوص يدلُّ على أنه في معظمه- في الأقل- موضوع، نُحِل عَليًّا نحلًا.
ـ نعم. غير أنَّ الأمر يتخطَّى الأسلوب إلى الأفكار العبَّاسيَّة المعروفة أيضًا، التي لم تكن مطروحة، ولا محلَّ جدلٍ في صَدْر الإسلام، ولا حتى في العصر الأُموي.
ـ مثل ماذا؟
ـ قضيَّة الأسماء والصفات، على سبيل المثال. اقرأ هذا النص: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمالُ الإِخْلاصِ لَه نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْه، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوف، وشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَة، فَمَنْ وصَفَ اللهَ سُبْحانَه، فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه، فَقَدْ ثَنَّاه، ومَنْ ثَنَّاه، فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه، فَقَدْ جَهِلَه، ومَن أشارَ إليه، فقد حَدَّه، ومَن حَدَّه، فقد عَدَّه، ومَن قال: «فِيمَ؟»، فقد ضَمَّنَه، ومَن قال: «عَلامَ؟»، فقد أَخْلَى مِنه. كائِنٌ لا عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، لاَ بِمُقَارَنَة، وغَيْرُ كُلِّ شيءٍ، لا بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ، لا بِمَعْنَى الحَرَكاتِ والآلَة، بَصِيرٌ، إذْ لا مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوحِّدٌ، إذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ ولا يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِه...».(2) فهذه كانت قضيَّة القضايا في العصر العبَّاسي، (قضيَّة الأسماء الصفات)، وهذا عَين كلام المعتزلة ومذهبهم. حيثُ إنَّهم أثبَتوا الأسماء، ونفَوا الصِّفات، مخالفين أهل السُّنة؛ ولذا وُصِفوا بالمعطِّلة، أو بالنُّفاة؛ لأنهم يزعمون، كما في هذه الخُطبة النَّهْجيَّة: أنَّ «كُلَّ صِفَةٍ له غَيْرُ المَوْصُوف، وكُلِّ مَوْصُوفٍ غَيْرُ الصِّفَة»؛ لأنه لو اتَّصف بالصفات ، للَزِمت مماثلتُه خَلقَه، ولَزِم تعدُّده، كما يزعمون. وهو تفلسفٌ ما كان محلَّ تجاذبٍ في صَدْر الإسلام قط. وتلك هي القضايا الجدليَّة، التي انقسم جرَّاءها المسلمون في العصر العباسي، ولم تكن لها أثارة من ذِكرٍ من قبل . ولو كانت من مستقِرِّ الرأي في صَدْر الإسلام، لما كانت لتثير جَدَلًا، ولا خِلافًا، وتكفيرًا، وقتلًا بين المسلمين لافتراق الآراء الفلسفيَّة فيها!
ـ وها قد جعل (الشريف الرَّضِيُّ) عَليًّا أحد أقطاب الجدال حول الله وأسمائه وصفاته، وقِدَم العالم أو حدوثه، في العصر العبَّاسي، آخِذًا بيده إلى مسالك الاعتزال في تلك المسائل! فلله درُّه من عابرٍ للعصور والعقول والثقافات!
ـ هذا فضلًا عن إتيانه بتفاصيل عجيبة في «سيناريو» ابتداء خَلْق السماء والأرض وخَلْق آدم، ممَّا لم يأت لا في كتاب ولا على لسان رسول! قائلًا: «ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، فَتْقَ الأَجواء، وشَقَّ الأرجاء، وسَكائِكَ الَهواء، فأَجازَ فيها ماءً مُتَلاطِمًا تَيَّارُه، مُتَراكِمًا زَخَّارُه، حَمَلَهُ على مَتْنِ الرِّيحِ العاصِفَة، والزَّعْزَعِ القاصِفَة، فَأَمَرَها بِرَدِّه، وسَلَّطَها عَلَى شَدِّه، وقَرنَها إلى حَدِّه، الهَواءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيق، والماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِيق. ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، رِيحًا اعْتَقَمَ مَهَبَّها، وأَدامَ مُرَبَّها، وأَعْصَفَ مَجْراها، وأَبْعَدَ مَنْشاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الماءِ الزَّخَّار، وإِثارَةِ مَوْجِ البِحار، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاء، وعَصَفَتْ بهِ عَصْفَها بِالفَضاء، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِه، وسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِه، حَتَّى عَبَّ عُبابُه، ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكامُه، فَرَفَعَهُ فِي هَواء مُنْفَتِق، وجَوٍّ مُنْفَهِق، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَماوات، جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجًا مَكْفُوفًا، وعُلْياهُنَّ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وسَمْكًا مَرْفُوعًا، بِغَيْر عَمَدٍ يَدْعَمُها، ولا دِسارٍ يَنْظِمُها. ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَة الكَواكِب، وضِياءِ الثَّواقِب، وأَجْرَى فِيها سِراجًا مُسْتَطِيرًا، وقَمَرًا مُنِيرًا: في فَلَكٍ دائِر، وسَقْفٍ سَائِر، ورَقِيمٍ مَائِر...».
ـ فالسماء الدنيا موجٌ من الماء، لكنَّه مكفوف، ولولا ذلك لانسكب على رؤوس الأرض فأغرقها! فأنَّى له ذلك؟ أكان نبيًّا آخَر؟!
ـ إنَّما تلك الثقافة الشعبيَّة القديمة في تصوُّر بدء الخلق، التي نجدها عند غيره، كما في مقدمة تاريخ (الطَّبَري) حول مبتدأ الخلق، مع أنَّ الطَّبَري كان يستند في ما يورد على بعض «القرآن» و«الأحاديث»، ولو تأوُّلًا.
ـ مع بعض الاسرائيليَّات!
ـ طبعًا. فالطَّبري قد خاض بدَوره في ثقافة عصره، بالقول حول ابتداء الخلق، ما كان أوَّله؟ ومنه القول إنَّ السماوات والأرض وكلَّ ما فيهنَّ تحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل، فيما قيل، الكرسي. وصولًا إلى ما يورده تحت عنوان «ذِكر الأخبار الواردة بأن إبليس كان له مُلك السماء الدنيا والأرض وما بينهما»!(3) وكذلك يفعل صاحب «النَّهْج»؛ إذ يورد أدقَّ التفاصيل في كيفية خلق الله لآدم.(4) فمِن أين له ذلك العِلم بالغيب، أكان يشاهد عمليَّة الخلق؟ أم جاءه وحيٌ، لم يأت ابن عمِّه محمَّدًا، عليه الصلاة والسلام؟! بل ستجده يضيف عن السماوات قوله: «ثُمَّ فَتَقَ ما بَيْنَ السَّماواتِ العُلَى، فَمَلأهُنَّ أَطْوارًا مِنْ مَلائِكَتِهِ: مِنْهُمْ سُجُودٌ لايَرْكَعُون، ورُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُون، وصافُّونَ لا يَتَزايَلُون، ومُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُون، لا يَغْشاهُمْ نَوْمُ العُيُون، ولا سَهْوُ العُقُول، ولا فَتْرَةُ الأبدَان، ولا غَفْلَةُ النِّسْيان. ومِنْهُمْ أُمَناءُ على وحْيِه، وأَلسِنَةٌ إلى رُسُلِه، ومُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وأَمْره. ومِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبادِه، والسَّدَنَةُ لأبوابِ جِنانِه. ومِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الأرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُم، والمارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيا أَعْناقُهُم، والخارجَةُ مِنَ الأقطارِ أَرْكانُهُم، والمُناسِبَةُ لِقَوائِمِ العَرْشِ أَكْتافُهُم، ناكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُم، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِم، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُم وبَيْنَ مَن دُونَهُم حُجُبُ العِزَّة.»(5)
ـ أنَّى له كل هذا؟!
ـ لا تسألني، يا هذا، بل اسأل (محمَّد بن الحُسين)!
ـ حاولتُ، لكن لم أجده لأسأله! فسألت أخاه (عَليَّ بن الحُسين، -436هـ= 1044م)، فأجاب:
لا تَسلْنِـي عَـمَّا أَراهُ فـإنِّـي ::: كُلَّ يومٍ أَرَى بِعَينيْ عَجيبا
ـ لقد سألتَ به خبيرًا! وبالمناسبة، كثير من الباحثين يرون أنَّ (المرتضَى) هو واضع «النَّهْج»، وليس أخاه (الرَّضِي)، والمرتضَى من أهل الكلام القائلين بالاعتزال. ولذا لا غرابة أن تلمس بصمات الاعتزال واضحةً على «النَّهْج».
ـ والمَرْءُ في أسلوبه مخبوءُ!
**__**__**__**__**__**__**
(1) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 97- 98.
(2) م.ن، 85- 89.
(3) يُنظَر: الطَّبَري، (1967)، تاريخ الرُّسل والملوك، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 32- 82.
(4) يُنظَر: النَّهْج، 91- 92.
(5) م.ن، 89- 90.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)