صباح عبدالله
يبحر بنا الأديب والكاتب حمد القاضي في كتابه “مرافئ على ضفاف الكلمة ”بين بحور الكلمة العذبة وضفاف المعاني الرقيقة متجلياً بأبهى صور الإنسانية نبلاً وعذوبة من خلال كتاب قيِّم رسم فيه لوحة بديعة في عالم الكلمة الأدبية؛ اذ يضم مقالات جمعت في مائة وثلاثة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، حيث يحط القاضي مراسيه في أربعة مرافئ، كانت بمثابة فصول رئيسة للكتاب (اجتماعية، ووطنية، وتأملية وثقافية) ، حيث كان استهلاله فيها بإهداء مؤثر إلى والدته موضي العليان، قال فيه (رحلت في طفولتي ففقدت حنان أمومتها، فأدلجت أبحث عن هذا الحنان بين حبر الكلمات) أعقب ذلك بمقدمة كتبها صديقه الدكتور غازي القصيبي، واصفًا قلم القاضي بقوله (حمد القاضي لا يغمس قلما في مداد.ويكتب على ورقة إنه يغمس وردة في محبرة الحب ويكتب على شغاف القلوب؛ لهذا تجيء كلماته رقيقة دوماً، ناعمة دوماً، حتى عندما يلامس المأساة ويفتح الجراح)
وهكذا فعل حين تحدث عن الحياة الاجتماعية ومعادلة الانتصار والانكسار بين سيف العقل ومطر العاطفة ، محاوراً كرسياً جلس عليه فسأل بكل بسالة : ما الذي غيرنا ؟ ليسيل قلمه بين التاجر والكاتب ويورق عنه حواراً نافعاً، ومن جميل ما ذكر في هذا الفصل فيض خاطره حول أمور عدة منها مساوئ السفر ولذة العطاء من قارورة عطر البذل و سر تلاقي الأرواح في حنين لعيون منزل قديم، وسلاسة حديثه عن جانبه العملي من خلال طبيعته الاجتماعية الحية فتحدث عن الموظف والعسكر والأطباء وعن تجربته في مجلس الشورى لسنوات طويلة، وكيف تكثف حب الوطن تحت سماء ذلك المجلس من خلال حرية الطرح وتوصيات لأصحاب القرار تصب في صالح الوطن والمواطن في نهاية المطاف.
أما عن فصل الوطنية فقد كان من نصيب مدن تغنى بها بلغة أدبية باذخة حيث قال عن مكة المكرمة (نهار من رحمة وأنهار من سكينة من أين أبدأ قصة الحب الزاهية؟ هل هي منتهية حتى أبدأها أم هي غائبة حتى أحضرها أم هي بعيدة حتى أدنيها ؟ ) ليردف في وصف شعوره نحو طيبة الطيبة بقوله ( أنا في طيبة أنهل العطر وامحوا الشجن حملت إليها تعب العمر فوجدتها تسكب راحة بين أضلعي، جئتها مدنف القلب فألفيتها تبث العافية بين مشاعري، ركضت إليها أنشد الطهر من طهرها فرأيتها تضمخني بطهرها وترشني بعطرها ) وبعد مقال كامل عن مدينته الحبيبة يختم الفصل بمقال عنوانه (أيها الوطن رائعة ضفائر نخيلك ).
أما في مرفئه التأملي فقد كان الفيلسوف المتزن حاضراً بنضج رجل حكيم نال نصيبه من حياته بين الحدائق والحرائق ففهم صحوة المشاعر في فهم قيمة الأشياء بعد الحرمان، وأخذ يتحدث عن لحظات الهزائم وذاكرة الراحلين وضنى الغربة كيف يمكن تحويل المحن الى منح إذا ما فهم العاقل مغزاها.
ومن جميل ما ذكره في مقال ذكر فيه ( قامت حملة في ألمانيا على غرار حملة ناجحة سبق أن قامت بها مؤسسة اجتماعية في بريطانيا قبل عدة سنوات كان عنوانها ((أطفئ التلفاز واستمتع بالحياة ليوم واحد)) وأذكر أن مجلة ”المعرفة“ قامت باستطلاع لدينا حول رأي الناس في هذه الحملة، واتفق الذين أجابوا على السؤال من رجال ونساء على أنهم شعروا بعد إغلاقهم التلفزيون ليوم وليلة بالهدوء في بيوتهم وأنهم وأطفالهم صاروا أقل عصبية، وأنهم ركزوا إلى أمور أخرى جميلة ).
أما في مرفئه الأخير الذي كان ثقافيا بامتياز فقد ظهر فيه بوضوح لغة الأديب المتذوق للشعر والقارئ المتعمق إذ جادت قريحته الطلعة بفيض من وجدانه، وقطعة من سمرة صحرائه، وبقية باقية من بساطة بلدته، وهو صفاء خالص لم ينهك بدخان المدنية على حد تعبيره حين اتخذ الكتاب سميره حين عز مسامروه بوضعه الكلمة بين السيف والوردة وبمقال جريء عن النقد بين الموضوعية والذاتية أخذنا بعدها الى جنة الشعر مع عمر أبو ريشة وبسماته السخية وجراحه المضمدة والشاعر رامي بين الحزن والعشق والشاعر حمزة شحات وشجونه الذي لا ينتهي.
ومن جميل ما ذكره عن أدب النسيان تساؤله الشفاف إذ قال ( أذكر أنني كتبت منذ سنوات مقالة أتساءل فيها عن نسيان الناس لعزف النغم، وهمس القافية، ونداء المحبة. تساءلت آنذاك ولا أزال أتساءل: هل نسي الناس رقة الكلمة وإشراقة الحرف؟ أتراهم انشغلوا عن الورود بالرماد؟ هل حضارة الاسمنت والرخام وطرفيات الكمبيوتر سرقتهم من جنة الشعر، وخمائل الأحلام؟)
«مرافئ على ضفاف الكلمة» ليس مجرد كتاب؛ بل هو رحلة أدبية غنية تبحر بالقارئ في عوالم من التأملات العذبة، الوطنية العميقة، والفكر المتزن، ما يجعله زادًا أدبيًا لكل عاشق للكلمة.