حامد أحمد الشريف
من المفارقات التي لا تزال حاضرة في المشهد الثقافي العربي، الخلط الكبير بين القصة والحكاية، إذ لا يزال كثير من أصحاب المجموعات القصصية؛ خاصة الحديث منها والتجاري على نحو الخصوص، يطرح قصصا يفهم من مطالعتنا لها أن الكاتب لا يقيم وزنا للفرق الجوهري بين القصة والحكاية، أو أنه يجهل هذا الفرق، أو لعله يستسهل الكتابة القصصية، فلا يلتفت لشروطها وقوانينها التي لا يزيغ عنها إلا هالك في كتابته، وقد يكون السبب أننا -عند قراءتنا- تستوقفنا الحكاية فلا نلتفت لغيرها من اشتراطات الكتابة السردية، فلا نعي أهميتها ولا نقف طويلا عندها، الأمر الذي دفعني لنشر سلسلة من الدراسات النقدية، وإقامة بعض الأمسيات الأدبية؛ للحديث عن النقد الكتابي، الذي أوصي من خلاله بالقراءة الناقدة، من أجل تعلم الكتابة الإبداعية حتى وإن لم نكن معنيين بالنقد أو غير متخصصين، وإن سبيلنا لهذا التعلم الكتابي؛ هو نقد النصوص، للتعرف على مكامن قوتها ونقاط ضعفها، والأهم من ذلك كله، الخروج من تأثيرات الحكاية السلبية، التي إن لم ننتبه لها ستشغلنا بها وحدها، وتأخذنا بعيدا عن فنون وأساسيات كتابة القصة القصيرة.
ولعله من المعلوم بالضرورة الإبداعية، أن هناك فرقا كبيرا بين الحكاية والقصة القصيرة، فالحكاية هي وصف شفهي أو مكتوب للصراعات المرصودة دون أي تدخل من الراوي، لمحاولة فهم الحدث، وتفسيره وتوظيفه لإيصال مغاز معينة وإنما نقله وإذاعته كما هو، ولا يشترط كذلك في وصف الخبر المنقول بالحكاية تحديد قيمته الحكائية، بمعنى استحقاقه للتداول من عدمه، أي أن الحكاية هي الأحداث والصراعات الخام المشاهدة التي يتداولها العوام ولا تحوي أي قيمة أدبية في لغتها وشاعريتها وأسلوبيتها، تسمى كذلك إذا جرى نقلها للآخرين لالتصاقها بفعل الحكي، ولا يشترط لها أي شرط يمايز بينها، وإن كان العرف قد جرى قديما، بأن الأحداث لا تروى جميعها، بل ينتقي منها ما نشعر أنه يحقق استثارة معينة لمشاعرنا، أو لعقولنا، أو يخاطب أخلاقياتنا وقيمنا، وهذا ما كان يقوم به الحكواتي؛ الذي يمتهن نقل الحكايات، ولا يبتعد كثيرا عن أصلها إلا ببعض الزخرفات الإلقائية والأغراض الشخصية، ونقوم به نحن أيضا؛ في حياتنا بنقل المرويات المتداولة شفاهيا بنفس الطريقة، وكل ذلك لا يعد قصة مطلقا، وإنما تناقلا للحكايات، التي نقف عليها، وتأتينا منقولة عن غيرنا أو نباشرها بأنفسنا، وبالطبع لا يدخلها ضمن أدب القصة قيمته التخيليلة، فالحكاية تبقى حكاية سواء أكانت متخيلة أم واقعية، فالمتخيل يستمد قيمته من جذوره الواقعية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وفي الأمر تفصيل كبير يمكننا الوقوف عليه؛ عند حديثنا عن الخيال، ما يعني أن الخيال والواقعية لا يستند إليهما في التفريق بين الحكاية والقصة.
والقصة -كما أسلفنا- تختلف تماما عن الحكاية، رغم اعتمادها عليها، بمعنى أن كل قصة قصيرة هي في أصلها حكاية، وليست كل حكاية قصة قصيرة، وببساطة شديدة يمكننا القول: إن القصة هي زاوية محددة من حكاية ما؛ وقعت في يد قاص متمكن، استطاع تحويلها لقصة إبداعية، عن طريق استخدام أدواته الكتابية، وصناعتها في مطبخه الأدبي، بصياغة بدايتها الغامضة التي تقود للحدث الرئيس بالتدرج المطلوب، أو ما نسميه تنامي الحدث المفضي إلى عقدة السرد، بالسرعة المطلوبة، وبالأفعال والأقوال المناسبة، واختيار عنوان لهذا الحدث الموصوف؛ يحمل مواصفات معينة، كأن يكون موجزا ومكثفا، وغير فاضح للنهاية، وإن كان يقود إليها، والأكيد أن القصة لا تستغني عن العنوان مطلقا، فهو جزء من القصة، تستكمل من خلاله مغازي الحكاية، وكل ذلك -كما يظهر- يعد صناعة، لا تأتي به السليقة الكتابية إلا بعد تمرس كبير، يجعلنا نكتب القصة بطريقة إبداعية من مسودتها الأولى، ويقينا لا تكتمل القصة إلا بصياغة نهايتها المدهشة، وتحديد مستهدفاتها، الفهمية والقيمية، أو لنقل المغازي التي يراد للقصة إيصالها، وزراعة السيميائيات التي توصل إليها، والتأكد أن كل مفردة كتبت؛ تحقق هذه المستهدفات، بحيث تظهر مرويتنا موجزة ومكثفة، وخالية من أي ترهلات، وتستحضر مرتكزات السرد الأربعة (الزمان، والمكان، والشخوص، والصراع) بالقدر وبالطريقة اللذين تناسبان الحكاية، من دون زيادة أو نقصان، وكذلك لعبها على الوظائف العقلية العليا للقارئ، ومحاولة استنهاضها، بما يعرف بذكاء النص، من دون الإغراق في الرمزية أو الوقوع في السطحية المهلكة، وكل هذا بالتأكيد لا تأتي به الحكاية، إن لم نصنعها بأيدينا، أو نصل للتمرس الكبير الذي يجعلها تولد مكتملة النمو، فهل كل ما يكتب من القصص وما يتم تداوله من مجموعات قصصية يحقق هذه الاشتراطات الفنية؟!
أظن أننا بحاجة لاختبار هذا الفرق، والتأكد من القيمة الفنية الحقيقية لسردياتنا القصيرة، قبل أن يغضبنا التجاهل، الذي قد تجده ممن لم تعد ذائقتهم تقبل نظما حكائيا لكاتب لا يلقي بالا للفرق بين القصة والحكاية أو لا يعرفها بالكلية.