د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
تداولت أوساط الشابكة قولًا نسب إلى الشيخ محمد الغزالي، من غير توثيق، عن تفسير معنى (عربي) وما اتصل بجذورها من ألفاظ، ورأيت أنّ ما جاء في هذا القول متوقف فيه.
قال «كلمة (عربي) تعني التمام والكمال والخلو من النقص والعيب، وليس لها علاقة بالعرب كقوم». ولم يذكر، غفر الله له، شاهدًا لقوله ولا مثالًا يصدق عليه، ولكنها مقدمة أراد أن يؤسس عليها تفسيره، ولم ينتبه إلى أن (عربيّ)، وصف والمنسوبات أوصاف، وأما المنسوب إليه الاسم (عرب) فاسم جنس جمعيّ يكون الواحد منه بياء النسب (عربيّ)؛ فإن أردت الواحد قلت (عربيّ)، نحو: أكرمت عربيًّا، وإن أردت وصفه بالعروبة قلت (عربيّ)، نحو: المعلقات شعر عربي، ويطلق لفظ (العرب) على سكان المدن وسكان الصحراء، فإن أريد أهل المدن خاصة قيل عرب، وإن أريد أهل الصحراء خاصة قيل (أعراب)، جاء في (الزاهر في معاني كلمات الناس لابن الأنباري، 2/ 56): «قال أبو بكر: قال الفراء: الأعراب: أهل البادية، والعرب: أهل الأمصار. فإذا نُسب الرجل إلى أنه من أعراب البادية قيل: أعرابي. قال الفراء: ولا تقول: عربي، لئلا يلتبس بالنسبة إلى أهل الأمصار. قال الفراء: وإذا نسبت رجلًا إلى أنه يتكلم بالعربية، وهو من العجم، قلت: رجل عرباني». وهو مثل قولنا اليوم (مستعِرب) وأعم منها (مستشرق).
وقال «فعبارة (قرآنًا عربيًّا) تعني قرآنًا تامًّا خاليًا من النقص والعيب». وهو يعني ما جاء في ست آيات عن القرآن المنزل، وإنما وصف بأنه عربيّ لأنه رسالة موجهة إلى قوم بأعيانهم أوّل الأمر، وهم جيل (العرب)، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [4-إبراهيم] ولسان قوم الرسول -صلّى الله عليه وسلم- اللسان العربيّ، وقابل الله عزّ وجل بين لسانين أعجمي وعربي، قال تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [103-النحل]، فهل يصح مقابلة لسان أعجمي بلسان تام؟ ولفظ لسان جاء نكرة لا يعين لسانًا فما قيمة وصفه بالتمام؟
وحين تقرأ مادة (عرب) في معجم العين للخليل بن أحمد (2/ 128)، تجد معاني مختلفة منها: «والعَرَبُ: النّشاطُ»، «وعَرِبَ الرَّجُلُ يَعْرَبُ عَرَبًا فهو عَرِبٌ، أي: مُتْخَم». «والمرأة العَروُبُ: الضحّاكة الطّيّبةُ النّفْس، وهنّ العُرُب». «والعَروبةُ: يوم الجُمُعَة». ولم نجد ما ذكره من دلالة على التمام.
وقال «وتفسير كلمة {عُرُبًا} - بضم العين والراء وفتح الباء – والتي وردت كصفة للحور العين في قوله تعالى (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ) [36-38: الواقعة] فوصفت الحور بالتمام والخلو من العيب والنقص». والمعروف من أقوال اللغويين والمفسرين لمعنى (العَروب) يدل على علاقة الحور بمن يكن له من محبة وأريحية، وليس من غرضٍ للوصف بالتمام والخلو من العيوب؛ لأن كلّ من في الجنة هم على هذه الصفة.
وقال «أما (الأعراب) الذين ورد ذكرهم في القرآن على سبيل الذم ليسوا هم سكان البادية، لأن القرآن أرفع وأسمى من أن يذم الناس من منطلق عرقي أو عنصري». و(الأعراب) معرف بـ(لام التعريف) وهي محتملة لدلالتين، إحداهما أن تكون عهديّة، فينطلق (الأعراب) على أعراب بأعيانهم، وبهذا قال بعض المفسرين(1)، والأخرى أن تكون جنسية دالة على الماهية فلا تنطلق (الأعراب) على كلّ أعرابي، وبهذا قال كثير من المفسرين(2)، وأما قوله «لأن القرآن أرفع وأسمى من أن يذم الناس من منطلق عرقي أو عنصري» فهو احتجاج عاطفيّ، والقرآن ذمَّ من استحق الذّم لنفاقه وقلّة دينه، قال الله تعالى عن اليهود والنصارى (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [30-التوبة].
وسواء أعهدية كانت لام التعريف أم جنسية فهي غير مستغرقة لأفرادهم، بدليل الاستثناء في قوله تعالى (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) [99-التوبة].
وأما قوله «ولو كان المقصود بالأعراب سكان البادية لوصفهم الله تعالى بالبدو كما جاء على لسان يوسف: (وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فلا يلزم متى كان للمعنى غير لفظ، مع أن (البدو) مصدر للفعل (بدا)، قال الخليل في (العين، 8/ 83) «بَدَا الشيءُ يَبْدُو بَدْوًا وبُدُوًّا أي ظهر... والبادية اسْمٌ للأرض التي لا حَضَرَ فيها أي لا مَحَلَّةَ فيها دائمة، فإذا خَرَجُوا من الحَضَر إلى المراعي والصّحارَى قيل: بَدَوا بَدْوًا. ويقال: أهل البَدْوِ وأهلُ الحَضَر». قال السمعاني في تفسيره (3/ 68) «قَوْله: {وَجَاء بكم من البدو} البدو: بسيط من الأَرْض يسكنهُ أهل الْمَاشِيَة بماشيتهم». أما استعمال (البدو) للدلالة على سكّانها فلعله من استعمال المتأخرين وهو من قبيل المجاز المرسل.
ويسأل ليحلل ويفسر «إذن من هم الأعراب؟»، ويجيب بقوله «إنَّ ألف التعدي الزائدة في كلمة الأعراب قد نقلت المعنى إلى النقيض كما في (قسط وأقسط)(3)، قسط: ظلم، أقسط: عدل»، وقاس على هذا أنّ «عرب: تم وخلا من العيب، أعرب: نقص وشمله العيب». وهذا خلط بين همزتين: همزة النقل التي للتعدية أو الإلزام، وهمزة الجمع، وأما همزة النقل فلا تدخل على الأسماء؛ كما أنّ همزة الجمع لا شأن لها بالأفعال، وهمزة (الأعراب) همزة جمع؛ ولذا لا تصلح لما أراد من نقض معنى العرب. ولا تصلح لإخراج (الأعراب) من العروبة، إذ قوله «فالأعراب مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة»، وهذا الوصف ينال سكان الصحراء وغيرهم. ولم يلتفت إلى أن (أعراب) مزيد بألف للجمع أيضًا، وهي ألف لا تكون في الأفعال إذا نقلت بالهمزة (قسط وأقسط).
انتهى إلى القول «فاللغة العربية التي هي لغة القرآن ليست لغة بشرية أصلا بل هي لغة السماء التي علم الله بها آدم الأسماء كلها ثم هبط بها الأرض وكانت هي لغة التواصل بين البشر وهذه هي هندسة اللغة الربانية». وهذا القول لا يغير من الأمر شيئًا فهو لا يغير معنى (أعرابي). ومع هذا هو قول غريب جدًّا، فاللغة العربية قبل التنزيل كانت لغة الشعر الجاهليّ وحكم العرب وخطبها وأمثالها، وزعمه أنها ليست لغة بشرية معاند لكل ما ورد في الذكر الحكيم، وذكر شيءٌ منه سابقًا، فالرسولُ البشريَّ أرسل بلسان قومه العرب اللسان العربي المبين، وأما الزعم بأن (اللغة العربية) لغة السماء التي علم بها آدم الأسماء فهو زعم لا دليل عليه، وما شأن اللغات الأخرى التي خاطب بها المرسلون أقوامهم أليست لغة رسالاتهم، أبشرية هي أم غير بشرية؟ وأما «هندسة اللغة الربانيّة» فمسكوت عنه.
**__**__**__**__**__**__**
(*) المقال مهدى للأستاذ معن بن حمد الجاسر بما زودني بقول منسوب للغزالي.
(1) انظر: معاني القرآن للفراء، 1/449.
(2) انظر: تفسير الطبري، 14/ 429.
(3) الهمزة في (أقسط) ليست للتعدية.