عبدالله العولقي
لو تساءلنا عن أهم القواسم المشتركة بين قصائد كريم العراقي لوجدنا أن أهمها أمران اثنان، الوطنية الصادقة ولغة الحزن وما يتبعها من التشاؤم غير المستقر، فلو تحدثنا عن الوطنية عند كريم لوجدنا قبل أن نخوض في قصيدته (هنا بغداد) أنه قد اختار لقبه العراقي كنايةً عن هذه الوطنية المتدفقة في روحه الشاعرة، ففي ديوانه هنا بغداد المنشور عن مؤسسة دبي الثقافية في عام 2009م يتقاطع الوطن مع كل قصائد الديوان، ولو فتشنا عن الأنا المزدحمة بين أسطر القصائد للقيناها أنا بليغة جميلة تستجذب القارئ إلى الاستمرارية في تناول النص، وأعني هنا أن هذه الأنا تشبه أنا المتنبي في قدرتها على استجذاب القارئ، وهنا قد يستعصي علينا فهم النص في تجربة كريم العراقي إذا عزلناه عن سياقه التاريخي كما تصنع الدراسات النقدية الحديثة، فقصائد الديوان نظمت تقريباً بعد عام 2003م، أي بعد الغزو الأمريكي للعراق وتشتت وطنه بين الطائفية والمذهبية والحزبية والقبائلية وهكذا، وهنا نلمح بصمة الوجع الوطني تفوح بين كل قصائد الديوان وألم الانكسار الذي أعقب الغزو، وهنا أعود إلى نفس الجغرافيا العراقية ولكن بارتداد زمني نحو الماضي وتحديداً إلى تجربة أبي الطيب المتنبي الذي عاصر الزمن الشعوبي في العصر العباسي الثاني، حيث تفوق فيه العنصر الأعجمي على العنصر العربي في كل مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية فجاءت أنا المتنبي العربية الوطنية لمواجهة هذا الانكسار، فهل الحالة الشعرية عند كريم العراقي تكررت كحالة إنسانية طبيعية وتشابهت مع حالة المتنبي في القرن الرابع؟ أو فلنقل هل الأنا الشاعرية الجميلة المكثفة عند الشاعرين تخفي وراءها وجع الوطن وانكسار الوطنية في نفسيهما؟
ربما تكون الحالة كذلك على الرغم من التناقض في طبيعة النفسية عند الشاعرين، فالقديم ثائر ومتمرِّد بينما الأخير حزين ومتشائم أحياناً إن صح التعبير، وإذا عدنا إلى ديوان هنا بغداد نجد أيضاً أن الوطن يتقاطع مع كل موضوعات الشعر التي تناولها أو قدمها الشاعر من الغزل أو الحكمة أو التأمل والذاتية، فلا بد أن تجد لفظة بغداد أو الوطن أو العراق في كل قصيدة تقريباً، ولعل اسم الديوان يكفي كذلك.
هناك تشابه آخر في تجربة كريم العراقي الشعرية، حيث تتقاطع سماتها اللفظية مع الشاعر نزار قباني وهذا نلمحه من قاموس كريم الشعري في بعض قصائده، فنجد ألفاظ: الكون والبحر والمحيط، الملايين، الرمل، الفردوس، الصحراء، ورغم كل هذه الأبعاد المنطلقة في أبعادها الزمانية والمكانية إلى أن جوهر كينونته لا تبارح جغرافيا العراق، بل لا تبارح بغداد تحديداً، وهذا التقاسم الشعري أو تشابه تجربة العراقي مع نزار جعل قصائده تصلح للغناء، وهذا يفسر تعاونه الكثيف مع الفنان كاظم الساهر المرهف في اختيار غنائياته، ففي هذا الديوان مثلاً نجد قصيدة (كثر الحديث)، وهي قصيدة مغناة تبتدئ بصدمة المتلقي عن طريق أسلوب الاستفهام المتكرر، وهذا الأسلوب ربما استقاه العراقي بقصد أم بغير قصد من الشاعر العباسي عمر الوراق الذي هاله وأفجعه ما أصاب بغداد في زمنه من الانكسار والوهن، وضياع مكانتها السياسية والتاريخية فابتدأ نونيته الشهيرة باستفهام متكرر:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين؟
ألم تكوني زماناً قرة العين؟
ألم يكن فيك أقوام لهم شرفُ
بالصالحات وبالمعروف يلقوني؟
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زيناً من الزين؟
وهكذا تكررت الحالة مع العراقي ولكن بأسلوب حداثي يتلاءم خطابه مع لغة اليوم، وربما يتفوق على نص الوراق كون هذه التساؤلات تتضمن لغة فلسفية جميلة تصطدم مع ذهن القارئ أو المتلقي حينما يبحث في كل بيت عن الإجابة، بمعنى أن خطاب الوراق مباشر بينما خطاب العراقي غير مباشر وبالتالي تحضر الدهشة مع قصيدة (كثر الحديث) بصورة أكثر مع القارئ، فيتحدث الشاعر عن حبيبة جميلة يعشقها الشاعر وتكثر حولهما الأسئلة والإشاعات في صيغة خطاب درامي يحبكه الشاعر مع امرأة لتكون الصدمة في آخر القصيدة أن تلك المحبوبة ليست إلا بغداد:
كثر الحديث عن التي أهواها
كثر الحديث من التي أهواها؟
ما عمرها؟ ما سرها؟ ما اسمها؟
ما شكلها؟ شقراء أم سمراء؟
عيناك أحلى أنتِ أم عيناها؟
برع العراقي في تصاعد الأحداث التصادمية في ذهن القارئ ليصطدم في النهاية ببغداد والتي ليست أجمل من تلك المرأة التي يخاطبها فحسب، بل أجمل من كل نساء الدنيا:
بغداد.. وهل خلق الله مثلك في الدنيا أجمعها؟
وحتى لا يفوتنا الحديث عن اللغة الشاعرية عند كريم العراقي فلا شك أنها تحمل سمة السهل الممتنع، وهذه سمة من سمات الشعراء الكبار، كما تحمل سمة التفرد في خلق العبارة الشاعرية الحداثية التي تتلاءم مع واقع اليوم وفي نفس الوقت هي تحمل بلاغة وفصاحة الأمس، هذا المزيج من السمات الإبداعية التي ينفرد بها كريم العراق ي كقوله في القصيدة:
قالوا إنك تسهر معها.. طبعاً.. طبعا
قالوا إنك تسكن معها.. طبعاً.. طبعا
عيناها بيتي وسريري ووسادة رأسي أضلعها
تمحو كل هموم حياتي لو مس جبيني إصبعها
وإذا عدنا إلى تجربته الشعرية وأنه قد تأثر من تجربتي المتنبي ونزار إلا أن لكريم تجربة خاصة فريدة إن لم تكن مدرسة شعرية خاصة به، فهي تجربة تتميز بالابتكارية الشاعرية والقدرة الإبداعية على لفت انتباه القارئ تجاه النص الفني الجميل، لكن هذه التجربة تكتسيها لغة الحزن العميق والوجع الغائر في أعماق النفس، حتى في لقاءاته التلفازية ولحظة إنشاده لقصائده تلمح نبرة الحزن في صوته وحتى في ضحكاته، فكأنه يريد البكاء ولكن كبرياءه لا يسمح (رحمه الله):
وما تدري بأن بكاي صعب
وأكبر من دموعي كبريائي
وكذلك نجد لفظة (الآه) وما يشتق منها تتكرر كثيراً وكثيراً في قصائده، وهي تعكس بلا شك طابع الحزن الذي يعتري الشاعر:
أقول آه كي تشفي غليلي
وتجرحني وأحسبها دوائي
وحتى في شعر الغزل تحضر الآه عنده:
صادت فؤادي والفؤاد ضعيف
والآه أصل الآه من حواء
هذا الحزن تتسرب منه التشاؤمية أيضاً في نظرة كريم للحياة:
يزور الحزن قلبي دون إذنٍ
وتمطر دونما غيمٍ سمائي
تقول أراك مبتسماً تغني
وكم يحتاج مثلك للبكاء
وقوله الشهير: ضاقت عليَ كأنها تابوت
هذه الأحزان جلبت الشكوى والتذمر في شعر كريم ولكنه في بعض الأحيان ينفيها عن نفسه ويحاول أن يبدو صامداً أمامها:
كم أكره الشكوى وأكره أهلها
وسجيتي في النائبات صموت
وكما في قصيدته الشهيرة التي تضج بالحكمة الإنسانية العميقة:
لا تشك للناس جرحاً أنت صاحبه
لا يؤلم الجرح إلا من به ألم
شكواك للناس يابن الناس منقصة
ومنْ من الناس صاحٍ ما به سقم؟
وهذه من وجهة نظري ليست تناقضية بقدر ما هي حالة إنسانية طبيعية، فهكذا هو الإنسان البشري في تناقضات سلوكية متعددة مع الحياة، وأفضل من يعكس أبعادها وصورها في حياتنا اليومية هو الشاعر الكبير كريم العراقي رحمه الله.