« إننا لا نتكلم أبداً سوى جملة واحدة، الموت وحده يقطعها»
عالم لساني..
اعتمدت الدراسات اللسانية القديمة الجملة «phrase» موضوعاً للدرس، وكانت تنظر إليها على أنها أكبر وحدة لسانية في اللغة، فقدمت الدراسات النحوية تحليلات جزئية مهمة لبعض الجوانب الخاصة بالعلاقات الشكلية والوظائف الإسنادية.
ودافِع هذا الركون المتّبع هو بروز الجملة عنصراً قاراً في جميع أنماط النصوص واستعمالاتها. فالجملة بكونها بنية ظاهرة الحدود والقَسمات جعلت مهمة انحصار علم اللغة في وصفها، وتقنينها، وعدم تجاوزها، أيسر حالاً وأقرب منالاً .
ومن اللغويين من ساوى بينها وبين الكلام كالزمخشري في قوله: « الكلام هو المركب من اسمين كقولك: زيد أخوك، أو فعل واسم نحو قولك: ضرب زيدٌ، وتسمى الجملة». ونجد ابن جني يعرفها بـ: « أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو ما يسميه النحويون الجملة».
وكذلك كان التصور البنيوي للجملة، فسمة ثبات الجملة وعدم تأثرها شكلياً بما يتبعها من متتاليات جُملية أو مركبات، جعل علماء اللغة [البنيويون بخاصة] يكتفون بالوصف النحويّ لمثل هذه الوحدات اللغوية ويرون تجاوزها يوصلنا حتماً إلى وحدات لغوية أخرى لها أبنية مماثلة .
فرولان بارت يرى إن بنية الجملة ينتج عنها أن بإمكانك دائماً أن تضيف كلمات، وصفات، ونعوتاً وجملاً أخرى تابعة أو أخرى رئيسه، ولن تتغير بنية الجملة أبداً. ولا يوجد على حد قوله قانوناً بنيوياً يجبرك على إقفال جملة، فيمكنك أن تفتحها بنيويا إلى مالا نهاية. وبسبب التنظيم والبنية والوحدة التي تضمنها الجملة ظل مفهوم اللسانيات لا يتجاوز حدود الجملة الضيقة، ولم توجد لسانيات خارج تلك الحدود حتى ستينات القرن العشرين.
ومجال موضوع علم اللغة كان ينتهي دائماً إلى الجملة، مما دفع علماء لسانيات النص مُؤخراً إلى إطلاق مصطلحات مثل: (نحو الجملة) ، أو (علم لغة الجملة) ، أو (لسانيات الجملة) على اشكال علم اللغة تلك، ولم تظهر هذه المصطلحات وتُتداول لدى علماء اللغة واللسانيات إلا لتمثل التقليد القديم والعام في البحث اللغوي الذي يقابله النمط الأحدث والأوسع وهو (علم لغة النص) و (لسانيات النص) و (قواعد النص) وغيرها.
ووقف اللسانيين عند عائق وصف النص وعدم إمكانية تناوله من خلال وصفه بأنه وحدة أكبر من الجمل، أو بأنها جمل متوالية في سياق. ذلك بأن الخاصية الأولى للنصوص هي كونها ترد في الاتصال. ولربما يأتي أحد النصوص على صورة كلمة واحدة، أو جملة واحدة أو مجموعة من الأجزاء أو خليط من البنيات السطحية. ويترتب على ذلك أن توسيع نطاق دراسات الجملة بحيث تشمل النصوص لابد وأن يفقد النصوص عدداً من الأمور الحيوية، وأن يسبب مشكلات عملية خطيرة .
وبعد تلك الإشارات التي بدت تلمح إلى أنه ينبغي للنص أو الخطاب أن يكون أساساً للدراسات اللسانية، تلاقت آراء طائفة من اللسانيين في عام 1968م الذين استقل بعضهم عن بعض في الغالب حول فكرة «لسانيات ما وراء الجملة» وتركز الانتباه على موضوعات كان الكلام عنها ممكنا بواسطة مفردات لسانيات الجملة، دون الوصول إلى حلول مقنعة. وفي وقت متأخر جاءت الإشارة إلى أن هذا الاتجاه الفكري لا يُمكّننا إلا من رؤية جزء فقط من جملة المميزات المهمة للنص. وكانت العقبة الكبرى حتى ذلك الوقت أن وحدة النص ظلت غامضة. رغم ظهور وإعلان اتجاهات مثل النحو التحويلي، والدلالة التوليدية وعدم اقتناعهم بالتناول المعتاد لمشكلة المعنى في النحو، لكن المميزات ظلت كما هي.
وما لبثت تلك الإشارات والمناظرات إلا أن تمخضت عن مرحلة جديدة من البحث في نظريات لغوية بديلة عما سبقها، وجاءت المؤلفات الجديدة نقداً لأسس الدراسات النحوية المبنية على الجملة، وأدت إلى مقترحات بأفكار جديدة. وأعلنت اللسانيات الاجتماعية معارضتها للجملة المجردة من كل معنى وارتباط بالموقف، وأشاروا إلى ضرورة التفاعل الاجتماعي داخل الجماعة اللغوية. كما واجه المشتغلون بالحاسب الآلي مطالب عمليات محاكاة اللغة الإنسانية في الحاسب الآلي. وتنبه علماء النفس على دراسات الذاكرة التي أصبحت مهمة لدراسة النصوص.
وهذه المطالب العلمية المتبادلة بين النظريات كانت الدافع الأكبر في مجال تطور لسانيات النص، وتحقيق ما هو أكثر من مجرد وصف بنيات الجمل، وتهتم بالعمليات التي بواسطتها يتحقق استعمال اللغة الإنسانية. وأصبح (النص) هو العلامة اللغوية الأساسية والأعلى وحدة والأشد استقلالاً من (الجملة)، وإليه تحوّل نظر اللسانيات والتحليل اللغوي بشكل واعٍ وجلي.
وقد مثل البنيويون الرأي القائل: إن الجملة هي القائمة بذاتها والمستقلة. وهي أكبر وحدة وصف في النحو. وأما علماء لسانيات النص فقد انقلبوا على هذا الرأي المتجذر في كل أشكال البنيوية وقرروا أن العلامة اللغوية الأساسية هي (النص). ولا تمييز بين النصوص فجميعها خاضعة للوصف والتحليل فالنصوص الأدبية مثلها مثل النصوص غير الأدبية . «وإن كان معظم النجاح الذي أصابته لسانيات الجملة يعود إلى استبعاد النصوص غير المقبولة، فإن نجاح لسانيات النص يعتمد على التجريب ويبحث عن الشواهد المتنوعة ف كل أجناس النصوص» .
ويمكن القول بأن ملامح المحاولة الأولى للسانيات النص تحددت بالانتقال من التحليل المقصور على الجملة إلى تحليل متتاليات الجمل، ويلاحظ أن معظم مقاربات الوصف النصيّ في تلك المرحلة بُعثت من داخل النحو. أو بعبارة أخرى إن (لسانيات الجملة) هي النواة الأولى التي انبثقت منها (لسانيات النص) والدراسات اللغوية الحديثة .
ومما مكّن لها مرحلة الانفتاح في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع هذا القرن. جعل تلك الدراسات تتجاوز النظرة المغلقة للغة إلى نظرة (وسائطية) تعد اللغة حلقة رابطة بين العالم الداخلي(العقل) والعالم الخارجي أو الإدراكي.
**__**__**__**__**__**__**
المصادر والمراجع:
1. لسانيات النص وتحليل الخطاب، د. عزمي محمد سلمان، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط 1، 2020 .
2. المصطلحات الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب، دراسة معجمية، د. نعمان بوقرة، عالم الكتب للنشر والتوزيع، 2009.
3. النص والخطاب والإجراء، روربرت دي بوجراند، ت تمام حسان، علا الكتب للنشر، ط 1 ، 1998 .
4. من لسانيات الجملة إلى لسانيات النص، د.سهل ليلى.
** **
- هياء سعد الشريف