د.عبد العزيز سليمان العبودي
يقول الله سبحانه وتعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ» (سورة البلد: 4). هذه الآية تشير إلى طبيعة الحياة المليئة بالمشقة والاختبار، حيث يواجه الإنسان تحديات في مختلف جوانب حياته. هذه المشقة هي جزء من الابتلاء الإلهي الذي يهدف إلى تهذيب النفس وتعميق الإيمان، لتتبدل لعباد الله المؤمنين يسراً وراحة، يقول سبحانه: « فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (سورة الشرح: 6)». قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل، إنه لن يغلب عسر يسرين. فالحياة السهلة لا تعني غياب التحديات، بل تعني التعامل معها بحكمة وقناعة، مما يساعد على تحقيق الرضا والقناعة بما كتبه الله، رغم المكابدة والمعاناة، بدون إغفال السعي والدعاء. فبعد أن دعا النبي أيوب - عليه السلام - في الآية « وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ « (ص: 41)، استجاب الله لدعائه وأمره في الآية التالية: « ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ» (ص: 42). فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه، مما يعكس رحمة الله له بعد صبره الطويل. وتُظهر الآيات أن الصبر على الابتلاء والاحتساب عند الله يؤديان إلى الفرج والعافية، فالله لا يضيع أجر الصابرين.
الحياة السهلة والبسيطة هي حلم يسعى إليه الكثيرون في عالم مليء بالضغوط والتعقيدات اليومية. هذا المفهوم، الذي امتد عبر الثقافات والعصور، جذب اهتمام الفلاسفة والكتاب الذين تناولوا طرق تحقيق حياة مريحة وخالية من التعقيد. وتعد الأعمال الفلسفية والأدبية مصدرًا غنيًا لاستكشاف هذا الموضوع، حيث قدمت أفكارًا عملية ونظريات ملهمة حول السعي وراء حياة بسيطة وهادئة.
في كتاب «الجوهرية» لجريج ماكيون، يقدم المؤلف رؤية فلسفية وعملية للتخلص من الفوضى التي تملأ حياتنا، مع التركيز على الأمور الأكثر أهمية. فعندما نتوقف عن محاولة فعل كل شيء أو قول «نعم» للجميع، نتمكن من تقديم أفضل ما لدينا مما يستحق الاهتمام. وتدور فكرة «الجوهرية» حول التمييز الواعي بين القليل من الأمور الحيوية والكثير من التفاصيل غير المهمة، ومن ثم التخلص من المهام غير الضرورية لضمان إنجاز ما هو ضروري حقًا. فإذا لم تحدد أولوياتك بنفسك، سيتولى الآخرون ذلك عنك. كما أن كثرة الخيارات تزيد من شعورنا بالتشتت، مما يعوق تقديم أفضل مساهماتنا. ولتطبيق مبدأ «الجوهرية»، يقترح الكاتب استبدال الافتراضات الخاطئة بثلاث حقائق أساسية: «أنا من يختار»، «القليل فقط هو المهم حقًا»، «يمكنني فعل أي شيء، ولكن ليس كل شيء». هذه المبادئ تساعد على إعادة ترتيب أولويات الحياة والتركيز على ما يحقق القيمة الحقيقية.
على الجانب الأدبي، يقدم هنري ديفيد ثورو في كتابه «والدن» تأملًا فلسفيًا عميقًا يدعو فيه إلى العيش ببساطة والتناغم مع الطبيعة، مستلهمًا ذلك من تجربته الشخصية التي استمرت عامين في كوخ بناه بنفسه قرب بركة والدن في ماساتشوستس. يعرض ثورو رؤيته للحياة التي تقوم على التحرر من قيود التعقيدات المادية، والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، والعيش بأقل التكاليف الممكنة، مؤكدًا أن البساطة هي المفتاح لحياة مريحة وذات معنى. يعبر الكتاب عن افتتان ثورو بالطبيعة، التي يعتبرها مصدرًا للإلهام والتأمل، ويوجه نقدًا لاذعًا للمجتمع الصناعي والمادية المفرطة التي تدفع الإنسان إلى حياة سطحية تفتقر إلى الجوهر. ومن خلال وصفه لتفاصيل حياته اليومية وتأمله في العالم الطبيعي، يدعو ثورو القراء إلى التفكير الذاتي وإعادة تقييم القيم الحقيقية للحياة.
يركز الكتاب على أن السعادة الحقيقية لا تأتي من التكديس المادي، بل من العيش بوعي وانسجام مع الذات والطبيعة، مما يجعل منه دعوة دائمة للتأمل في أسلوب حياتنا والسعي لتحقيق البساطة والجوهر.
نختتم بعرض موجز لعدد من الكتب التي ركزت على تبسيط شؤون الحياة، أولها كتاب «قواعد التبسيط» لجون ميدا يستعرض خلاله عشرة قوانين لتبسيط الأعمال، التكنولوجيا، والتصميم. بينما يتناول كتاب «بساطة جنونية» لكين سيغال كيف كانت البساطة محور استراتيجية شركة آبل التي ساهمت في إعادة إحيائها بعد أزمة مالية.
ويقدم كتاب «قواعد بسيطة» لكاثي آيسنهاردت ودونالد سول مجموعة من القواعد التي تساعد الأفراد والشركات على اتخاذ قرارات فعّالة في بيئات معقدة، في حين يناقش كتاب «قوة القليل» لليو بابوتا تحديات الوفرة المفرطة في المعلومات ويقترح خطوات لحياة أبسط وأكثر تركيزًا.
أما كتاب «الهولاكراسي» لبراين روبيرتسون فيطرح نظام إدارة جديدًا يوزع السلطة بين الأفراد لتعزيز القيادة الجماعية واتخاذ القرارات بناءً على الأدوار. وفي كتاب «احصل على الأمور منجزة» يقدم ست يفر روبينز خطة من تسع خطوات للتغلب على الفوضى وزيادة الإنتاجية مع تقليل العمل غير الضروري، فيما يقدم كتاب «لا تتوتر بشأن الأمور الصغيرة» لريتشارد كارلسون دليلاً عمليًا للتعامل مع الضغوط اليومية وتقليل القلق. ويركز كتاب «البساطة» لإدوارد دي بونو على إزالة التعقيد غير الضروري من التفكير والعمليات لتحقيق حياة وعمل أكثر وضوحًا.
ويعبر تشارلز فاغنر في كتابه «الحياة البسيطة» عن رؤيته الفلسفية التي تدعو إلى العيش بصدق ووضوح بعيدًا عن التكلف والمظاهر، مؤكدًا أهمية البساطة كقيمة أخلاقية وإنسانية، بينما يدعو كال نيوبورت في كتابه «التقليل الرقمي» إلى تقليل الاعتماد على الأجهزة الرقمية التي تستهلك الوقت والطاقة، مشجعًا على حياة أكثر تركيزًا وهدوءًا.
من خلال هذا العرض يتبين حرص العديد من مؤلفي الكتب على تقديم وصفات لتسهيل شؤون الحياة، إلا أن بعضهم أفرط في الإطالة لإرضاء الناشرين، فالأفكار التي يمكن تقديمها في صفحة واحدة تُقدم في عشر صفحات. ورغم ذلك، فإن الانتشار الواسع لهذه الكتب، واستهلاكها الكبير في مجتمعاتنا العربية بعد ترجمتها، يسلط الضوء على حاجة القارئ العربي إلى أعمال أصيلة تسعى لتبسيط الحياة، مستندة إلى قيمنا الشرعية ومنسجمة مع أسلوب حياتنا وعلاقتنا بالله أولًا، ثم بأنفسنا وأسرنا ومجتمعنا المحلي. كما يجب أن تأخذ هذه الكتب بعين الاعتبار العلاقات الجديدة التي ظهرت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.