سليم السوطاني
اللُّغة نهرٌ لا يتوقف جريانه، من خلالها يتواصل النَّاس فيما بينهم. والبحث والدراسة والمطالعة، في مجال اللُّغة، فيه من اللذة المعرفية ما لا تضاهيها لذة.
المجتمعات والمؤسسات التعليمية والحكومية التي تزرع حبَّ اللُّغة داخل نفوس المنتمين إليها تتمتع بحسٍّ عالٍ من الوعي والإدراك والحضارة الإنسانية.
اللُّغة العربية لغة غنية بمفرداتها وتعابيرها، وتستحق أن تكون سيدة اللُّغات في كل بلد عربي، ولا تقدَّم لغة أخرى عليها مهما كانت الدواعي والأسباب.
من الجميل أن نتعلمَ اللُّغات الأخرى، ونحترمَ جميع اللُّغات، ولكن التباهي بإجادة لغة أخرى غير اللغة الأم والتّشدق بها في غير حاجة، ولا مكان يستدعي ذلك، هو نوع من فقدان الهوية، والنقصِ والجهلِ المدقع لدى المتباهي بهذا الفعل، فالإنسان الأكثر وعيًا يعرف ويدرك قيمة الانتماء إلى اللُّغة التي اكتسبها منذ أن طرقت الكلمات مسمعه وهو في المهد.
إن ما يحزن خاطري، ويشجي قلبي، أن بعض أصحاب العقول الهشة من العرب يدربون أولادهم، منذ نعومة أظفارهم، على طمس اللغة الأم، واستبدالها بلغة أخرى، بذريعة أنها لغة العصر..! فأي هوانٍ تعيشه تلك العقول البائسة؟! وأي مسخ سيطر على تفكيرهم وجعلهم يتنكرون للسان العربي الذي تنحدر جذورهم إليه؟!
هنا يفتقد الإنسان أصالته، ومن يفتقد ذلك فلا يعوّل على مستقبله ولا على تفكيره، حتى لو أجاد كل لغات العالم..!
ما الذي يمنع الطامح إلى مجد يتحقق أن يعتزَّ بانتمائه إلى لغته، ويتعلّم اللغات الأخرى من باب نقل العلم والمعرفة؟ ألا يمكنك تعلُّمَ لغة أخرى إلا بعد أن تفقد هويتك؟!
الحضارات والثقافات الحقيقية هي التي تتمسك بجذورها، ومهما حاول المرء أن يتجرد من هويته اللغوية، ويغرم بلغة أخرى، فإنه سيظل قاعدًا على أبوابها، ولن تقبله بصفته أحد أبنائها، مهما كان عشقه لها.. فلسانه سيظل معوجًا، ولن يستطيع أن ينطق مفرداتها وتعابيرها مثل أصحاب اللُّغة الأصليين.
ثمة نقطة أودُّ الإشارة إليها، ألا وهي أسماء المقاهي والمطاعم، التي تتخذ لها أسماءً أعجمية، من باب أنها تمثّل عاملَ جذبٍ وأسلوبًا تسويقياً وتجاريًا، ومن يركن إلى هذا التبرير، فهو يجهل اللُّغة العربية وما تحويه من كنوز من المفردات الخلاقة، والتي تتّسم بالعذوبة، وستكون علامة تجارية جاذبة لو فتّش صاحب المنتج قليلًا في بحر العربية، وسأسوق دليلًا بسيطًا على ذلك؛ نرى الأسماء التي تطلقها الأمهات على البنات، وكيف يبحثن عن اسم غير متداول، وعندما يعود المرء الذي يسمع بهذا الاسم أوَّل مرة إلى المعجمات يجد أن الاسم عربيٌّ خالصٌ، وينضح بالأصالة، فعلينا فقط التفكير في هذا الجانب، وأن تكون هويّتنا عربية فصيحة، وستأتي بعد ذلك الخيارات الكثيرة من الأسماء والمصطلحات الباذخة في الجمال.
علينا أن نقدّر قيمة اللُّغة العربية، ونستشعر مسؤوليتنا تجاه المحافظة على هويتنا، وبثُّ الوعي، وردع أهل الهشاشة والضعف الذين يحاولون طمس لغتهم.. وعلى المؤسسات التعليمية والمجتمعية أن تقدّم الفِكَر التي تعزز تمسّك الفرد بهويته اللُّغوية، وأن تجعل هذا الأمر المهم من أولوياتها، تعلّمهم تذوّقها، وإدراك حسن بيانها، وحلاوة أساليبها، وموسيقى مفرداتها، وجلالة تعابيرها، عند ذلك يعشقونها، ومن يعشق شيئًا لا يتنازل عنه مهما كانت البدائل.