يمثّل الأدب الغرائبي والعجائبي منطقة خصبة لتحليل العلاقة الإشكالية بين الواقع والمتخيل، بوصفه حقلًا سرديًا يتقصّد زعزعة البُنى المعرفية السائدة، وإعادة تشكيل تصوّراتنا حول الذات والآخر. فهذه الكتابة، بما تحمله من سمات التهجين وكسر أفق التوقع، لا تُنتج مجرد عوالم مفارقة، بل تُمارس فعلًا تفكيكيًا يختبر جدوى الثوابت، ويمعن في مساءلة النسق المعرفي والسلطوي المهيمن.
إنّ ما يُحسب لهذا النمط من الأدب، أنه لا يغرق في الخيال هروبًا، بل يشتغل على «الممكن المُهمَل»، ذلك الممكن الذي لا تتيحه المنظومات العقلانية التقليدية. إنه يتسلل إلى مناطق الصمت في الثقافة، ويستثمر غرابته لكشف ما جرى تطبيعه وتمريره تحت عباءة «الواقع». من هنا، يغدو الأدب الغرائبي والعجائبي منصّة لإعادة هندسة الوعي، وتفكيك الهويات السردية والاجتماعية على حدّ سواء.
ومن هذا المنظور، فإن مقاربة الأدب ضمن أطر النقد الثقافي تتيح تتبّع آليات اشتغاله على البنية الرمزية للهوية والمعرفة. فالنص لا يكتفي بإرباك القارئ جماليًا، بل يُنتج قلقًا معرفيًا يُحرّض على إعادة النظر في تمثّلات السلطة، ومساءلة ما يُفترض أنه طبيعي أو بديهي. إنّ فعل الدهشة في هذا الأدب ليس غاية، بل وسيلة لخلخلة أنساق التفكير، ومناهضة السرديات الكبرى.
الهوية في هذا السياق لا تُقدَّم بوصفها قوالب جاهزة أو جوهرًا ثابتًا، بل بوصفها كيانًا سرديًا دائم التشكّل، يتقاطع فيه الفردي بالجماعي، ويتنازع فيه الوعي مع سلطات اللغة والمجتمع والتاريخ. إذ تتبدّى الذات الساردة في كثير من هذه النصوص ككائن يتأرجح بين الانتماء والانفصال، بين ما يُراد له أن يكون، وما يسعى إلى أن يصيره. لا سيّما أنّ استدعاء «الخارق» في هذا الأدب لا يتم من باب الزخرفة السردية أو الهروب من الواقع، بل يُستخدم كعدسة كاشفة تُضيء المسكوت عنه، وتُبرز هشاشة الأسس التي يقوم عليها النظام الثقافي. فالخارق هنا يتموضع بوصفه فاعلية رمزية تُقوّض المركز، وتُعيد توجيه بوصلة القراءة نحو الهامش، ونحو الآخر المهمَّش، ونحو ما لا يُقال.
ولعلّ ما يُضفي على هذا الأدب أهميته في الحقل النقدي الثقافي، هو قدرته على إنتاج رؤى متعدّدة، وتوليد قراءات تتجاوز الظاهر إلى البنية العميقة للخطاب. فهو لا يكتفي بعكس علاقات السلطة، بل يُعيد إنتاجها وفق أنساق مغايرة تنفتح على إمكانات تأويلية غير تقليدية، وتُفسح المجال أمام اللامفكّر فيه لأن يطفو إلى السطح.
إنّ الغرائبي والعجائبي، إذ يدمج بين الواقعي والمتخيل، يطرح سؤالًا وجوديًا وثقافيًا حول ما يعنيه أن تكون الذات نفسها في عالم يتغيّر باستمرار. وفي هذا الصدد، يعبّر عن وعي سردي مأزوم لا يطمئن إلى يقين، بل يجد خلاصه في التشظي والانفتاح على ما لا يُقال.
وعليه، فإنّ هذا الأدب، في اشتغاله الرمزي والفنّي، يُمثّل آلية نقدية حادّة تُسهم في تفكيك الواقع وإعادة تأويله، فهو لا يعكس فحسب مفارقات السلطة والمعرفة، بل يُعرّيها، ويُعيد طرح الهوية بوصفها سؤالًا لا ينتهي، مشروعًا سرديًا مفتوحًا على المجهول، مشتبكًا مع السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. بهذا المعنى، يغدو الأدب الغرائبي والعجائبي أكثر من مجرد متعة تخييلية؛ بل مختبر سردي لتحليل البُنى، ومجالًا لتوليد وعي نقدي جديد، يُعيدنا إلى الواقع لا لنسلّم به، بل لنفكّكه ونعيد النظر فيه من جديد.
** **
- د.رائدة العامري