بات موضوع تعلم الكتابة وتحسين الأسلوب الكتابي هاجسًا عند الكثير من الكُتاب، على مختلف أغراضهم من تعلم الكتابة وممارستها.
= وقد ظهر بأَخَرَة اهتمام بالغ بتعليم الكتابة والتدريب عليها، اهتمامًا انعكس على حركة التأليف أيضًا، وقد كان التأليف سابقًا للتدريب في ظني، فظهرت كُتبٌ تتحدث عن أسرار الكتابة، وكيف يكتب كبار الكتاب.
= وكنت أظن أن قلق التعلم الكتابي هاجسٌ حديث، إلى أن قرأت فصلًا في كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير، شدني لقراءته أولًا قبل باقي فصول الكتاب، وهو جزء من مقدمة طويلة للكِتاب، حيث بنى ابن الأثير كتابه على مقدمة تقوم على شرح أصول البيان العشرة، كل أصل منها فصل قائم بذاته، أتبعها بمقالتين.
= وقد جذبني عنوان هذا الفصل على وجه التحديد وقد كان: (في الطريق إلى تعلم الكتابة)، وهو الأصل الأخير من أصول البيان كما رتبها مؤلفها، والملاحظ على عنوان الفصل أن ابن الأثير يُوجه هذا الفصل إلى المتعلمين من الكُتاب، عادًّا أن الكتابة طريق طويل، وهو الدليل والقائد فيه.
= وقد ذكر في هذا الفصل فكرة طريفة، وفي ظني أنه لا يشعر بطرافة الفكرة إلا من يحاول أن يكون كاتبًا، ويجهد نفسه في الاستمرار في التمارين الكتابية، ولكنه يواجه مشكلة رئيسة هي إيجاد الأفكار، فالكاتب الذي ينوي الانضباط اليومي في الكتابة ومحاولة الإنشاء الإبداعي المنتظم، يعاني أشد المعاناة من إيجاد مصدرٍ يزوده بالأفكار.
= وقد وجد ابن الأثير الحل، وأثار حماس المتعلم إلى فاعليته، إذ ذكر أنه توصل لهذا الحل بنفسه، فيقول عن مجاهدته لنفسه التي تحثه على كتمان هذا الاكتشاف لكنز الكتابة ومنبعها: «وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت في نيله من العناء؛ فإني سلكت كل طريق حتى بلغته آخرًا، وإنما تكون نفاسة الأشياء لعزة حصولها ومشقة وصولها»ص91، وفي هذا وعي من ابن الأثير بأسبقيته في مجال تعليم الكتابة إذ يقول في ختامها «سلكت في ذلك طريقًا اخترعتها» ص126.
= ومعلوم أن هذا الكنز لا يتهيأ لكل متعلم، بل إن هذا العلم الكتابي أثار رغبة ابن الأثير في الاعتداد بنفسه، والافتخار بمكانته قائلًا: «ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها؛ إذ لم يظفر غيري بأحجارها»ص91، ولا يخفى على القارئ ما لأسلوب ابن الأثير من ثقة بالغة بقدراته الإبداعية التي جعلته يجاوز الاعتراف بموهبته إلى التعريض بالكُتاب غيره واصفًا إياهم بالباحثين عن سر الكتابة ولم يجدوا حتى أحجارها، وبون واسع بين الجوهر والحجر.
= وقد سمى هذا الكنز بـ (حل الأبيات الشعرية)، وحلها أي نثرها، وفصّل في هذه النظرية الكتابية التي كان رائدها، وقسمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهو الأدنى، أن يأخذ الناثر بيتًا من الشعر فينثره بلفظه من غير زيادة؛ وهذا عيب فاحش.
القسم الثاني: وهو وسط بين الأول والثالث في المرتبة، وهو أن ينثر المعنى المنظوم ببعض ألفاظه، ويعزم على البعض بألفاظٍ أُخر، وذلك بأن يأخذ الكاتب بعض بيت من الأبيات هو أحسن ما فيه لأنه في الغاية القصوى من البلاغة والفصاحة، ثم يماثله بألفاظ أخرى من عنده.
القسم الثالث: وهو أعلى من القسمين الأولين، فهو أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية، ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول. ص93-95
= وبعد هذه الأقسام يتبين للكاتب المتعلم بلا شك أن القسمين الثاني والثالث هي الأقسام التي يحمد له إكثار الدربة فيها، حتى يبلغ المهارة في الكتابة، بعد أن دله ابن الأثير على مصدر ثري لإنتاج الأفكار؛ إذ إنَّ من أبيات الشعر ما يتسع المجال لناثرها. وحتمًا هناك أبيات يضيق فيها المجال ولكنها الأقل، وللكاتب المتعلم في غيرها سعة.
= ولا يكتفي ابن الأثير بشرح نظريته في تحويل الشعر إلى منثور؛ بل إن ابن الأثير يُكرم الكاتب المتعلم بذكر أمثلة ونماذج فيورد أبياتًا من الشعر وينثرها؛ لتتضح فكرته بالمثال، فيذكر البيت الشعري ثم يقول: (أخذت هذا المعنى فنثرته) (وقد نثرت هذين البيتين)، (وقد نثرت في هذا الموضع أبياتًا تكون قدوة للمتعلم)، وبهذا يكون ابن الأثير قد عدّ نفسه نموذجًا يُحتذى في حل الأبيات الشعرية، بل يستنطق القارئ بعد نثره لأحد أبيات أبي تمام قائلًا له: (فانظر كيف فعلت في هذا الموضع؟) مثيرًا انتباهه وموجهًا لرأيه حيث يفترض إعجابه بالنجاح في نثر البيت الشعري.
= وابن الأثير يثبت في فعله هذا أن من مهارات الكاتب التي يجب أن يمتلكها بجانب الجسارة في الكتابة، هي ثقته بنفسه وبكتابته، فثقة الكاتب بنفسه جزء من نجاح العملية الكتابية، ولا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن ابن الأثير قد مارس هذا الفعل وهو ينثر لكبار الشعراء كالمتنبي وأبي تمام، ثم يعقب على نثره بثقة لافتة قائلًا: «وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به؛ فمن شاء أن ينثر شعرًا فلينثر هكذا، وإلا فليترك «، عادًّا كتابته النموذج الأمثل، وما عداه هو مستوى لا يرتضيه بل يُطالب كاتبه بترك الكتابة، وهي عبارة طريفة لابن الأثير الذي يكتب بهدف تعليم الكتابة، وفي نفس الوقت يمارس التعالي والحدية على المتعلم، فإما أن تكتب بمثل ما كتبت وإلا فلتترك!
= وقد ظهر اعتداد ابن الأثير بنفسه، اعتدادًا نابعًا من ثقةٍ بمكانته الأدبية، وبالمنزلة التي وصل إليها، فها هو يعد نفسه في منزلة تجاوزت مرحلة الأديب المتقن، إلى منزلة المعلم والموجه لمن يريد أن يكون كاتبًا، فيقدم له نصائح نابعة من تجربته الشخصية التي بلغته ما بلغ من المكانة الأدبية.
وقد كان ابن الأثير يُسوِّق لفكرته من خلال الحديث عن نفسه بوصفه نتيجة مشجعة؛ يقول ابن الأثير: «ومن وقف على ما ذكرته علم أن الله قد جعل تحت خواطري من بنات الأفكار سريًا، وهذه الطريق يجهلها كثير من متعاطي هذه الصناعة، ولو استخرج من الأبيات الشعرية ما استخرجت لهام بها في كل واد، وليس معناه أن يقصر كتابته على حل الأبيات الشعرية، ولكن يستعين بما يحفظ ويقرأ من الشعر على موهبته الكتابية، ويعرف من أين تؤكل الكتف، ومن أين تؤخذ المعاني» ص92.
وابن الأثير لا يتمالك نفسه في سياق الثناء على نثره، فيقول بعد نثره لبيت من الأبيات بأنه: «يتضمن معنى غريبًا لم يسبقني إليه أحد» ص107، وفي موضع آخر: «وهذه المماثلة لم يأت بها أحدٌ غيري» ص110. فحتى وإن كان قد استفاد المعنى من البيت الشعري، ولكنه أضاف له معنى لم يُسبق إليه. وهذا مكون نفسي لافت في شخصية ابن الأثير، التي ترى تفوقها في النثر على أبيات شعرية لكبار الشعراء، كما قال بعد نثره لفكرة احتواها بيتان أحدهما للمتنبي والآخر لأبي تمام، فيقول بعد أن يورد نثره للمعنى: «في هذا الفصل كل مليحة من المعاني، ولو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان كافيًا» ص113. وهي لغة تفاخرية صريحة، يقصد فيها مجاراة نصوصه النثرية للشعراء بل تفوقه عليهم بشهادته هو لنفسه، وهي شهادة كافية على حد ما يرى، ولا ينفك ابن الأثير في مدح موهبته فيقول بعد نثره لأحد الأبيات: «وهذا معنى حسن له من نفسه مُثْنٍ وحامد، ومن سامعه يمين وشاهد، وهو من معانيَّ المستخرجة» ص118، فكلامه لا يحتاج إلى أن يتحدث عنه، ويسوق الدلائل لبراعته، بل هو مثن على نفسه وحامد وحتى سامعه وقارئه يشهدون بذلك، وفي هذا وضوح جلي لاعتداده الشديد بنفسه.
= ويختم ابن الأثير كلامه عن (حل الأبيات الشعرية)، بنصائح مهمة حتى تنجح هذه الطريقة مع المتعلم: وذلك بأن من أحب أن يكون كاتبًا، فعليه بحفظ الشعر، ولا يقنع بالقليل منه، ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته، وسبيله أن يكثر الإدمان ليلًا ونهارًا، ولا يزال على ذلك مدة طويلة، حتى يصير له ملكة، فإذا كتب بعد ذلك تدفقت المعاني في أثناء كلامه، وهذا شيء خبرته بالتجربة ولا ينبئك مثل خبير. ص99
= وعلى الراغب في تعلم طريقة ابن الأثير وإتقانها، أن يعود إلى هذا الفصل من كتابه فقد استعرض أمثلة كثيرة في بضع وثلاثين صفحة يشرح فيها حل الأبيات الشعرية، ومن أين تؤكل كتف المعاني الشعرية.
= وختامًا، فابن الأثير متأكد من تفرده في (حل الأبيات الشعرية)، ويعول على هذه الطريقة في تحسين مستوى الكتابة التي تبلغ بالمتعلم مبلغ ابن الأثير نفسه، بل إنه يواصل مراهنته على هذه الطريقة، فيقول بأنه تفوق على من سبقه في (حل الآيات القرآنية) كذلك، إذ سُبق بهذه الطريقة، فيقول: «ولئن كان من تقدَّمني أتى بشيء من ذلك، فإني ركبت فيه جوادًا وركب جملًا، ونال من مورده نهلة واحدة ونلت منه نَهَلًا وعَلَلًا» ص126. وهذا من طريف تفاخره الذي يستدعي ابتسام القارئ للغة ابن الأثير الحجاجية التي تنتصر لنفسه دائمًا، بأسلوب تهكمي تعريضي، قائلًا عمن سبقه في حل الآيات القرآنية بأنهم وإن سبقوه في الكتابة في هذا الموضع إلا أنه أتاهم بخيل سابق، وحمل رايتهم فيه.
** **
- د.منال بنت فهيد آل فهيد