رواية (المزهاف) تنسج عالماً يجمع بين الواقع والخيال، مستحضرةً تفاصيل الحياة البدوية بعمق ووعي سردي لافت. لا يكتفي الكاتب بسرد حكاية، بل ينخرط في كتابة نابضة بالتأمل والقوة، مدركًا لما تتيحه السردية من قدرة على زعزعة القارئ وإثارة تساؤلاته.
في المزهاف لا تظهر الصحراء كخلفية جغرافية محايدة، بل كمختبر روحي قاس، يصقل النفوس، ويعلّم الصبر والكرامة والاعتماد على الذات. الرواية تحتفي بقيم البداوة الأصيلة: النبل، الوفاء، الشجاعة، والكرم، حتى في مواسم الشحّ. الصحراء، برغم قسوتها، تهب ساكنيها صفاءً داخلياً نادراً، وتمنحهم شجاعة في مواجهة الحياة، تجعلهم أكثر اتصالاً بالحرية، وأكثر اعتزازاً بالهوية.
الرحلة في هذه الرواية ليست مكانية فقط، بل وجودية عميقة، تنبثق من قلب الفراغ الصحراوي الشاسع. يتحول هذا الفراغ إلى استعارة للتيه الروحي، فيصبح البحث عن المعنى رحلة مزدوجة: في الخارج والداخل معًا. وكأننا أمام عمل وثائقي نابض بالحياة.
«الحياة هي الموت، في صورةً أخرى»، المزهاف ليست مجرد قصة عن موت مفاجئ بسبب الجمال، بل هي تشريح ساخر ومرّ لمجتمع مثقل بالتناقضات.
الزهف، هذه الظاهرة الغريبة، تتجاوز كونها حدثاً لتصبح رمزاً لحالة هشّة من الانبهار والانكسار، حيث يتحول الجمال إلى قوة قاتلة، لا لشيء سوى لأن المُتلقي هشّ لدرجة لا يحتمل فيها فتنة الجمال.
المفارقات المتناثرة في الرواية تخدم هذه الفكرة العميقة: كيف يمكن للجمال، المفترض أنه مصدر للإلهام والفرح، أن يقود إلى الهلاك؟ أهو الجمال ذاته، أم عجز الإنسان عن تحمّله؟ لا تمنح الرواية إجابات نهائية، بل تترك القارئ يتأرجح بين الضحك والأسى، بين الفانتازيا والواقع، وكأنها تقول: «ربما الجمال ليس للضعفاء.»
«لم يكن ساذجاً وإن بدأ ذلك على وجهه»، شخصية “زبن” ليست بطلاً أسطورياً، بل إنسان عادي يواجه قدره وينجرف إلى مآزق لم يكن له يد في صنعها.
و”قمرا”، من جانبها الآخر، ليست مجرد امرأة مجروحة، بل خصم خفي يدير المشهد من الظل، حوّلت ألم الفقد إلى قوة غامضة وفاعلة.
طريقة السرد في (المزهاف) تشبه في تركيبها الأعمال السينمائية، حيث تتقاطع الأزمنة وتتشابك المشاهد، في تنقل سلس بين الماضي والحاضر والمستقبل. هذه التقنية تمنح الرواية روحاً بصرية تجعلها قابلة للتحويل إلى عمل تلفزيوني أو سينمائي دون أن تفقد عمقها الأدبي.
الرواية تعيد تعريف البطولة، فلا مكان للبطل الذي لا يُقهر. بل كل الشخصيات، حتى الثانوية منها، تتحرك ضمن شبكة دقيقة من العلاقات والتوترات، تجعل من (المزهاف) مأساة إنسانية أخلاقية، أكثر من كونها مجرد قصة.
هذه ليست رواية عن البدو فقط، بل عمل يؤسس لنوع جديد يمكن تسميته بالرواية البدوية الحديثة، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، والخصوصية المحلية بالقيم الإنسانية الكبرى.
المزهاف هي العمل الروائي الثاني للكاتب والشاعر خليف الغالب، وأقولها بثقة: إنه يسير بخطى ثابتة نحو صفوف كبار الروائيين. وشهادتي فيه قد تُعدّ مجروحة، لكنني لا أتكلم من فراغ؛ فقد قرأت الروايات المحلية، وتعمّقت في مشروع عبدالرحمن منيف، وغصت في عوالم نجيب محفوظ، وتتّبعت الأدب الروسي، ونهلت من أعمال نيكوس كازانتزاكي. ومع كل هذا، أجد أن أعمال الغالب تقف بثبات في صف الروايات العالمية، من حيث العمق، والرؤية، والأسلوب.
** **
سالم الثنيان - حائل