أ.د. محمد خير محمود البقاعي
إن اهتمام مراكز الأبحاث ورجالاتها بضبط كل ما يتعلق بتاريخ الشعوب؛ أسماء أعلامها، وأماكن نشاطها البشري، والأحداث التي رافقت حضورها على خارطة العالم؛ كل ذلك تدونه أبحاث العلماء، وكتب المدققين، ورسوم الجغرافيين، وأعمال الفنانين، بل حتى مغامرات المغامرين. كل هذا دوَّنه جبريل غيمار في هذا التقرير الذي يوضح بما لا يحتمل اللبس والاعتراض أن محمد علي المرتزق، ابن مهرب الدخان، الذي ولد في مدينة «قولة» باليونان -وكانت إقليماً عثمانياً- جاء إلى مصر في مارس/ آذار 1801، مع حامية عثمانية قوامها 4 آلاف جندي بغرض طرد الفرنسيين من مصر، وكان ضابطاً غير نظامي، ولم يكن يتحدث اللغة العربية، بل إنه كان أمياً، ولم يكن له كفيل في الدولة العثمانية، ولم يكن من الأشراف.
وتدل تصرفات محمد علي منذ مجيئه إلى مصر أن مناسك الإسلام التي كانت تسود في هذه المناطق لم تكن تشبه في شيء ما كان يسود في البلاد الإسلامية. إن الصراع الذي خاضه محمد علي للوصول إلى الحكم يدلك على أن التزامه الديني كان ذرائعياً يستبيح كل ما يحقق رؤيته وإن خالف الأسس الدينية التي اعتاد المصريون عليها. لقد شهد أحداث حملة نابليون بونابرت على مصر، وكان يراقب الخطط الحربية التي لم يعتد على رؤيتها ولما مكن له الله فيها أراد، عندما تولى الحكم، أن يكون لجيشه مثل تلك الخطط، ووجد له بعد تجارب فاشلة على المستوى الخارجي أن يستعين بالخبرات الغربية في كل مفاصل الدولة وعلى رأسها الجانب العسكري الذي تعزز بعد إخفاق وكلاء الدولة العثمانية في العراق والشام في هزيمة الدولة السعودية الأولى التي كان الأتراك يسعون إلى الموارد والمكانة التي يوفرها لهم وجودهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة. كل ذلك كان مهدداً بحكومة وطنية استطاعت تجاوز الانقسامات والإمارات والخلافات الدينية لتبني دولة سعودية أولى أصبحت الدولة العثمانية ترى فيها تهديدا لنفوذها الديني الغريب على أهل البلاد، وأصبحت القوى الاستعمارية حينها (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا) ترى في سيطرة هذه الدولة على رقعة واسعة من طرق التجارة العالمية البحرية والبرية خطراً يهدد مصالحها التجارية والعسكرية. لقد كان الحضور الغربي في دولة محمد علي وامتداداتها في الجزيرة العربية وبلاد الشام واضحاً جلياً مما أقلق العثمانيين أولاً والأوروبيين ثانياً. وتقرير جبريل غيمار الذي نترجمه خير دليل على حضور النفوذ الغربي بجلاء في الحدث الذي نتحدث عنه: هزيمة القوات السعودية للدولة الأولى وبقاء فكرة الاستقلال والأمة الوسط نابضة إلى يوم الناس هذا. يقول غيمار:
لقد كانت تلك التذكرة التي وجدها ناجل في طيبة (الأقصر) تتحدث عن تابوت حجري عثرت عليه بعثة «ريمون دو فيرنيناك «سان-مور) 1794-1873م) »Raymond de Verninac Saint-Maur
(وهو ضابط التحق بالبحرية الفرنسية عام 1812م. تميز في رحلة المسلة وحُفِر اسمه عليها بعد استقرارها في ساحة الكونكورد).
[159] وأهديت التذكرة في شهر أكتوبر، عام 1928م إلى أكاديمية النقوش والآداب. وفي نوفمبر عام 1831م لمح جوانيس Joannis، الذي وصل مؤخرا، على قدم وساق مع رفاقه وفريقه، على متن ذهبية (نوع من السفن التي تبحر في النيل). لمح ذهبية أخرى على وشك أن تلقي مراسيها قرب الأقصر، لقد كانت ذهبية فيسيير، الذي عرَّف نفسه بأنه تاجر فرنسي، يقيم في القاهرة، وتأتي زيارته في إطار اهتمامه بمراقبة عمليات البيع بالجملة، ثم دعا فيسيير البحار جوانيس إلى متن سفينته، وأكرمه بزيارة صالون على متن السفينة تزينه الأسلحة المتنوعة، وبعض المقتنيات الحبشية؛ معجم، وكتاب مقدس، وأشياء أخرى. وأكرمه فضلا عن ذلك بإقامة وصلة من الرقص العربي تؤديها راقصاته المفضلات، شأنه شأن المقيمين الأوروبيين في ذلك العصر، الذين كانوا يعيشون على النمط التركي. لقد أعرض فيسيير إعراضا غريبا خلال الزيارة التي استغرقت ساعة عن أن يذكر لضيفه أي كلمة عن ماضيه؛ ذلك الضيف الذي كان يعتقد بحسن نية أنه يتعامل مع تاجر ناجح ولطيف، كل ما يسعى إليه أنه يود الترويح عن مواطنه. وبعد حين عاد بران رولليه الذي ذهب بلا شك في جولة بحرية على متن ذهبية أخرى لفيسيير. كان هذا الأخير ينتظر عودة رولليه لينشر أشرعته من جديد. حينئذ تحرر جوانيس من التزامه بالرحاليْن، ونشرت ذهبيته أشرعتها متابعا مسيرته نحو الشمال.
وبعد سنة عانت الأقصر من المد البحري الذي حصل في عام 1832م ليركب النيل هبوطاً مع ما كان يحمله، حينئذ علم البحار أن التاجريْن النشيطين (فيسيير ورولليه) قتلا في مدينة سنار إبان عودتهما من الحبشة! لقد كان الخبر فيما يتعلق برولليه مكذوباً؛ لأن سيرته الذاتية معروفة.
ولكن ما الذي ينبغي التفكير به بخصوص أحداث حياة فيسيير؟ إنها مثيرة للجدل أيضاً.
لقد اكتشف السيد جان أوت (1878-1935م) Jean Ott في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية (كي دورسيه) رسالة غير منشورة، مؤرّخة في 3 مارس، 1936م
[160] تحت بادئة sub. الرقم، 167. يتحدث فيها القنصل العام «في مصر»، «جان فرانسوا» ميمو (1773-1837م) Jean-François Mimaut قائلاً: «لقد أفلحت متبعاً أقصى مراسم اللياقة واللطف، واستطعت إنقاذ تاجر فرنسي من الإفلاس الذي كان يتهدده؛ يدعى هذا التاجر؛ فيسيير؛ وهو ضابط سابق، التحق لشجاعته ومواهبه العسكرية بخدمة الباشا، إبان الحرب على انصرف بعدها لسنين خلت إلى المضاربات التجارية.
لقد أقام بعدها ثلاث سنوات في الحبشة (أي منذ نهاية عام 1831م، (وهو تاريخ يتقاطع كما يلاحظ جان أوت Jean Ottمع السنة التي ذكرها جوانيس Joannisلزمن زيارته ذهبية فيسيير في الأقصر).
لقد كان قد جمع كمية كبيرة من البن في الحبشة، ثم نقلها إلى مصر ليبيعها هناك، أو ليعمل على نقلها إلى أوروبة، آملاً بهذا أن يؤسس لطريق جديدة للتجارة؛ وبدلاً من أن يلقى من الحكومة المصرية المساعدة والتشجيع الذي كان يأمله وينتظره، وجد نفسه مهدداً من عقليات الاحتكار والضرائب، وعلى وشك أن يخسر قيمة بضائعه.
لقد فرضوا عليه أن يدفع ضرائب إضافية، وكأنهم يصادرون البضاعة.
لقد تقدمت على الفور بشكوى للباشا، وساعدني في ذلك السيد بوغوص M. Boghos الذي ينبغي علي القول: إنه ساعدني بكثير من النوايا الحسنة في إتمام الأمر، فحصلت في نهاية المطاف على أمر بأن تترك لفيسيير كمية البن كلها أو قسماً منها، على أن يدفع رسوم عبور بسيطة مخففة». لقد دفع هذا التضييق الأخير فيسيير إلى التخلي نهائياً عن التجارة في مصر. ولم أجد له البتة أي ذكر بعد عام 1835م، مع أن غيوم «ماري لوجان (1824-1871م) Guillaume »Marie» Lejean
(جغرافي ومستكشف فرنسي، عالم لم ينل حظه من الشهرة له عدد كبير من الرحلات في إفريقيا وآسيا وأوروبا).
وجد مع ذلك في عام 1860م تقريباً بعض المعلومات المحددة عن فيسيير، وعن موظفه برون-رولليه.
[161] كان نابليون الثالث قد كلّف لوجان Lejean، وهو مستكشف رسمي، ذو كفاءة لا يمكن إنكارها، بمهمة أن يمهد الطريق لمستكشفي منابع النيل الأبيض باعتراف واحد منهم هو صموئيل «وايت» بيكر (1821-1893م) Samuel «White» Baker
(مستكشف بريطاني، له تاريخ حافل في الكشوفات الجغرافية، شارك في اكتشاف منابع النيل).
حاشية1، ص161: انظر مقدمة كتاب لانجر Langerعن النيل، 1869م=
V. la préface du Nil, de Langer, 1869).
لقد اعتاد لوجان على أن يكون خصماً للهواة والمغامرين، ولكنه مع ذلك بدا متسامحاً مع والي الخرطوم وتاجر العاج، ومتشدقاً، صلفاً عندما يتعلق الأمر بالمدعو فيسيير الذي سبق له أن «خدم في عهد نابليون»، ونال، باستحقاق أو بغير استحقاق، وسام جوقة الشرف»، ويعرفه السكان الأصليون بلقب فيزيان»Phisian», ويضيف أن هذا لا يعني أنه فيزيائي، ولكنه لا يبتعد عن ذلك كثيرا.
(حاشية 2، ص 161: رحلة إلى النيلين بين عاميْ (1850- 1864)، (النوبة، كردفان، السودان الشرقي)، باريس، 1865م، مع أطلس› ص29.
Guillaume Lejean: Voyage aux Deux Nils Nubie) Kordofan, Soudan oriental) exécuté de (1860- 1864م), Paris، Hachette, 1865 - 192 pages atlas).
وليس من شك أن ذلك اللقب هو تحريف لاسم فيسيير نفسه. ولكن ينبغي ألّا نعير كبير اهتمام لسخرية لوجان Lejean فهو في المقام الأول لم يعرف فيسيير حق المعرفة، ناهيك عن أنه، هو نفسه، يعترف في موضع لاحق أن سمعة التجار الأوروبيين في السودان ترسم عنهم «في جانب منها لوحة تميل إلى السواد». إن صفقات فيسيير التجارية مع إثيوبيا كانت تسهم حصراً، كما توقع ذلك «جان فرانسوا» ميمو (1773-1837م) « Jean- François Mimaut في تنمية ثروة محمد علي.
(وميمو قنصل فرنسا في الإسكندرية بين عامي 1829-1837م. حمل معه قبل مغادرته مصر مجموعة ثمينة وقيمة من الآثار المصرية).
فالباشا الكبير يحتكر عمليات بيع البن الإثيوبي.
لقد كان لاتساع رقعة هذا الاحتكار مؤخرًا نتيجة بغيضة: لقد جعلت أي تجارة لحساب تجار القطاع الخاص في السودان مستحيلة، عدا اصطياد الفيلة من أجل العاج، وتجارة العبيد.
[162] يظل علينا أن نجلو نقطتين: ما أصول فيسيير؟ وفي أي قطاع عسكري خدم، وما كانت رتبته في فرنسا أيام نابليون؟
ولجلاء ذلك، رجعت ثانية إلى السيد جان أوت M. Jean Ott ورجوته، لأن فيسيير من الحاصلين على وسام جوقة الشرف، أن يبحث في مكتب توثيق الأوامر الوطنية، ولكن مقر حفظ وثائق تلك الأوسمة كان قد احترق في عام 1871م؛ فتسبب ذلك في احتراق مجموعة كبيرة من الأضابير.
لقد وجد السيد جان أوت، على الرغم من ذلك، اسم شخص يدعى Joseph Vayssièr (مكتوبا بحرف ال V أو W)، ولد في 26 سبتمبر 1770م، في مدينة فيلفرانش Villefranche مقاطعة آفيرون Aveyron
حصل على الوسام في 28 أكتوبر 1816م. (على أن يكون تاريخ الاستحقاق في 17 مايو 1813م). وكان بتاريخ 16 أغسطس 1836م يخدم في الفرقة 22، سلاح خفيف.
وتوفي متقاعداً في مدينة طولون في 8 يناير 1835م.
هل يمكن مطابقة هذا الكابتن مع شخصية فيسيير الذي نتحدث عنه؟ لا؛ لأن رسالة «جان فرانسوا» ميمو (1773-1837م) Jean-François Mimaut تثبت أن تاجر البن المغامر كان في عام 1835م مايزال على قيد الحياة. إذن، ينبغي استبعاد فرضية أن يكون رجلنا هو المقصود بجوزيف فايسيير
Joseph Vayssière
هل تسمح الأرشيفات الحربية باعتماد فرضية أخرى؟
لقد جاء في رسالة تلقيتها من مكتب الخدمة التاريخية التابع للقيادة العامة للجيش في 2 سبتمبر 1928م رداً على رسالتي المؤرخة في 24 يونيو الماضي التي نقلها وأوصى بها الكولونيل «شارل فرانسوا آبل» كليمان غرانكور 1908- بعد 1973م) «Charles François Abel» Clément- Grandcourt حاكم جبل الدروز، (له كتاب عنوانه: في بلاد الشرق. قصص قطاع الطرق، قصص متنوعة، نشر فكتور أتنجر، باريس، نوشاتل، 1936م=
Au Levant. Histoires de Brigands, HIstoires Vraies. (Soft cover) Clément-Grandcourt, Général. : Published by Editions Victor Attinger, Paris, Neuchatel, 1936).
[جاء في رد الأرشيفات الحربية]: إن البحث في الأضابير العديدة المتعلقة بمن يحملون اسم
Vaissière, Vayssière, Levaissière, Vessière, Vessier, Veys- sier, Veyssièr
(التي تبدأ بحرف V أو(W لم يسفر عن أي نتيجة. عندها خطرت ببالي فكرة أخرى؛ تتمثّل بمراجعة أسماء الضباط الذين كانوا في يناير1817م يتقاضون نصف راتب، فربما نجد بينهم اسماً يتطابق مع اسم الضابط المعاون لإبراهيم؟
وتكفل السيد جان أوت Jean Ottبالمهمة أيضاً.
لقد وجد في المكتبة الوطنية، جدولاً استخرج منه أربعة أسماء لأشخاص يتقاضون نصف راتب،
[163] ويحملون لقب فيسيير وهم: ملازما المدفعية أنطوان Antoineوجان باتيست Jean Baptiste
والمساعد في الاختصاص نفسه غيوم Guillaume وملازم سلاح الفرسان جان-جاك فرنسوا
Jean-Jacques-Françoi
أيًا من هؤلاء الأربعة نختار؟ أصرف النظر بادئ ذي بدء عن ضابط سلاح الفرسان لأن فيسيير، رجلنا، يقول: إنه قائد كتيبة، وليس قائد سرب.
يتبقى لدينا مختصو سلاح المشاة الثلاثة؛ الملازم غيوم (التحق بالخدمة في اليوم التاسع من شهر بريريال prairial السنة الثالثة). (وبريريال هو الشهر التاسع في التقويم الجمهوري بين عامي (1793-1805م) ويوافق من 20 أيار إلى 18 حزيران).
وكان عمره أربعين سنة على الأقل في عام 1816م. والحال أن القنصل روسيل Roussel
يتحدث عن فيسير بوصفه «ضابطاً شاباً»، ناهيك عن أن عسكرياً ما زال ملازماً، وهو في الأربعين من عمره، غير قادر بلا شك على تولي مهمة مستشار تقني، حتى لو كان ذلك لدى أمير تركي.
أما أنطوان فقد التحق بالخدمة العسكرية في 17 مايو 1803م.
أما جان باتيست فقد التحق بها في 4 أبريل 1807م.
كان الأول (أنطون) قد تجاوز في العام نفسه الثلاثين.
أما الثاني (جان باتيست) فلم يكن قد بلغها. إذن، إن رجلنا في هذه القائمة هو جان باتيست الذي لم يكن في 4 أبريل 1807م قد تجاوز الثلاثين، التي كان (أنطون) في عام 1816م قد بلغها أيضاً؛ إذن، لم يكن لجان باتيست حينها من العمر إلا 26 أو 27 عاما، وهذا يعني أنه التحق بالجيش وعمره أقل من 18 سنة؛ وهو بذلك يساوي في البراعة معاصره الأسطوري «دنيس شارل» باركان (1786-1845م)
Denis-Charles Parquin
(التحق بالجيش وعمره 16 عاماً، وله سيرة عسكرية عجيبة). ولنا لقاء.