قبل عام انتقل إلى رحمة الله عز وجل الأب الوالد «عبدالرحمن بن محمد الذييب»، عن عمر ناهز «94» عامًا، قضاها والحمد لله والمنة في طاعة الله، وفي خدمة وطنه ومجتمعه.
ولد «أبي» في مدينة الزلفي الواقعة شمال مدينة الرياض بحوالي 290كم، وعاش فيها السنوات الأولى من عمره، في كنف والده (جدي) الشيخ «محمد بن سليمان بن إبراهيم الذييب»، الذي عمل رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الزلفي، كما عاصر رحمه الله بداية التعليم النظامي الحكومي إذ أصبح أول مدير لمدرسة الزلفي.
كان انتقال جدي الشيخ محمد بن سليمان الذييب للعمل قاضيًا في مدينتي الخبر ورأس تنورة، سببًا لانتقاله مع أبيه، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، وكانت نقلة حضارية لافتة ومهمة في حياة الجد وأبنائه إذ انتقلا من مجتمع بسيط إلى مجتمع صناعي ومتنوع (لعله يكون موضوعاً لكتابة أخرى). كان وجيهاً في مجتمعه أينما حل، ولذا تشرف باستضافة الملك سعود بن عبدالعزيز على وليمة غداء في منزله برأس تنورة، وكان ذلك قبل وفاته بيوم واحد، رحم الله الجميع.
ومن غير المستغرب في سيرة الجد، رحمه الله، أن أهل الزلفي الكرام، المعروفين بوفائهم وحبهم لبلدتهم ووطنهم، حفظوا دور الشيخ محمد وجهوده داخل الزلفي وخارجها. رغم وفاته، رحمه الله قبل «65» عامًا، إلا أنهم ما زالوا يكنون له الكثير من الود والمحبة ويتذكرون مكانته التي اكتسبها بعلمه وفراسته وقبل هذا سلوكه وأخلاقه العربية الإسلامية.
بعد هذا القبس من سيرة الجد ومكانته العلمية والمجتمعية فلا عجب من تأثر الابن «الوالد» بمدرسة والده، كيف لا وقد تربى بين يديه وفي رعايته ما بين الزلفي والمنطقة الشرقية. بوفاة الجد، الشيخ محمد، رحمه الله، بدأ فصل جديد في حياة الأسرة إذ اضطر الوالد وأخوته وأخواته - رحم الله الميت منهم، وأطال في عمر الحي على طاعة الله- الانتقال إلى الرياض. حصل الوالد على وظيفة في وزارة العمل والشئون الاجتماعية، وقد كانت انطلاقةً لبداية حياته وسيرته العطرة - دون رفقة والده - مديرًا لدار الأيتام في مدينة بيشة الجميلة «واحة الخير والعيشة». رغم حداثة سنه فقد تمكّن، بالعمل الجاد وحسن النية والإخلاص والعلم الذي تعلمه من مدرسة والده، من قيادة الدار على الوجه الأمثل. كما كان تطويرياً ومحباً للدار وطلابها، وسباقاً في اقترحه على الوزارة، دمج طلاب الدار بالمجتمع والسماح لهم الدراسة في المدراس الحكومية العامة. وعليه أخرجهم -رحمه الله- من عزلتهم وسمح لهم الاختلاط بالطلاب الآخرين والاحتكاك بأبناء المجتمع، وكنهم خير تمكين ومنهم من تفوق في الدراسة والتحصيل العلمي وتفوقوا على أقرانهم من الطلاب وشقوا طريقهم في الحياة مواطنين صالحين نفعوا أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم. وبعد أن أمضى سنوات عدة في بيشة، اُختير الوالد للعمل مديرًا لدار الأيتام في مدينة أبها «البهية الجميلة ببيئتها وأهلها الكرام»، بعد قرار الحكومة -حفظها الله- دمج دور الأيتام في مدن: نجران وبيشة وجيزان، وأبها، وتكون الأخيرة المقر الرئيس لأيتام المنطقة الجنوبية.
وكان خلال سنوات عمله الطويلة، في هذه الدار، أبًا لهموأخًا لبعضهم، وقد نجح رحمه الله في تهيئة البيئة المناسبة لنجاح هذه الفئة من مجتمعنا، وقد كانوا وما زالوا - وأن فرقتنا الأماكن - أخوة وأحبة إذ أكمل جلهم دراساتهم العليا فمنهم من أصبح ضابطًا في العسكرية بفروعها المتعددة بوزارتي الدفاع (والطيران سابقَا)، والداخلية، ومنهم الطبيب والمهندس والمعلم والموظف... إلخ. تمكن هؤلاء الطلاب الأيتام، بعد أن يسر الله لهم سبل النجاح، من المشاركة في نهضةهذه البلاد الغالية بمناطقها المختلفة. كما قدر هؤلاء الطلاب، بما لديهم من خلق رفيع، جهود معلمهم الذي عدوه أبًا لهم،فلم تنقطع صلات أغلبهم به، وأذكر مرافقتي له في مناسباتهم التي يقيمونها من فترة إلى أخرى في مختلف مدن المملكة. وكان، رحمه الله، يجد في اللقاء بهم فرحة لا توصف وهو جالس بين أبنائه بالتربية الذين يزيد عددهم على الخمسين والستين وأحيانًا أكثر في مثل هذه المناسبات، وألحظ التغيير في نفسيته قبل سفرنا وبعد عودتنا إذ كان يجد متعة في لقاءاته بأبنائه التي تبعد عنههموم الدنيا وإشكالاتها، فتعود به السنين إلى أيام سهره معهم ورعايته لمريضهم ووقوفه مع ضعيفهم داعمًا ومساندًا،ورادعًا لشقيهم. كان يمضي الساعات الطوال بينهم ومعهم،فأصبحت الدار بيته الثاني وروادها أولاده الذين ليسوا من صلبه.
أصبحت الدار في مدينة أبها منارة في مبناها الفخم وبمنسوبيها وروادها الأيتام الذين أصبحوا بسبب الله ثمأسلوب الوالد وقيادته يشار لهم بالبنان: في تفوقهمالدراسي وتحقيق الانجازات في فعالياتهم الرياضية والاجتماعية، حتى أن البعض بدأ يغار منهم ومن نجاحاتهم. لذلك لم تتردد الجهات العليا في الوزارة بسبب هذه النجاحات، ومنها اقتراحه تعيّين عنصر نسائي يرعى الأطفال (مربيات وممرضات)- وهو اقتراح تبنته الوزارة- إلىدعوته للانتقال إلى منصب رفيع في مدينة جدة، مفتاح المملكة على البحر الأحمر ورمز التنوع الاجتماعي، إلا أن من يعيش في أبها ويحتك بأهلها يصعب انتزاعه منها، فلم يقبل العرض مفضلًا البقاء في المدينة التي أحبها.
رغم حب الوالد، رحمه الله، لعمله في أبها، بين أبنائه الذين أحبهم وأحبوه، إلا أن دوام الحال من المحال فكان أن قرر الوالد الانتقال إلى الرياض ليعمل في وزارة الدفاع في وفد المملكة في هيئة التصنيع الحربي ومقرها القاهرة. لم تطل مدة عمله إذ قرر الوالد خوض تجربة جديدة في حياته وهي العمل الحر، ونظرًا لتميز الوالد بالطيبة المتناهية والسماحة فقد مرّ في أعماله التجارية بين صعود وهبوط. وأخيراً انتهت تجربته التي استمرت لأكثر من عقدين إلى تركه هذه الأعمال والاكتفاء بالعمل في مكتب عقار أراده أن يكون جسرًا لتواصله بالمجتمع وممارسة حياته الطبيعية.
كان الوالد، رحمه الله ، مختلفًا عن غيره في سلوكياته وأفكاره وقناعاته، وقد كان بارًا بوالدته قائمًا بصلة الرحم عطوفًا على الضعفاء نيته بيضاء ولسانه رطب وقلبه أبيض وكثير من الناس يفهمون شخصيته بطريقة مغايرة لكنه استمر عليها حتى وفاته لا يحتقر أمرًا ولا يقلل من إنسان مهما كان عمره أو مكانته فتراه شيخًا مع الشيوخ شابًا مع الشباب. ومع هذه الصفات إلا أنني وأخوتي نجد له هيبة الأب الحاسم فكنتُ أهاب النقاش معه، ومع أنه نادرًا ما يعاقب بمد اليد إلا أن هيبته وشخصيته ونظراته تجعلني أقف أحيانًا عاجزًا عن تبرير خطأ قمتُ به أو تصرف صدر مني لم ينل استحسانه أو وجهة نظر أود طرحهالنفس منكسرة، نذكرك في كل لحظاتنا كل ما في البيت: الفناء والجلسة والمجلس ومكتبكم ... إلخ يذكرنا بكم، وكنت وما زالت الموج.
والدي- وأنت في قبرك، الذي هو بمشيئته تعالى روضة من رياض الجنة، وبعد عام من فقدانك- لقد تركت بي أثراَ لا ينسى فقد فقدتُ صلة الرحم التي كنتُ مع اخواني نشارككَ بها، والتهيت عن زيارات الأصدقاء والأحبة الذين لا تتأخر عن زيارتهم في الأسبوع الواحد.
والدي العزيز بعد هذه الأشهر الاثني عشر أقول إن القلب ليحزن والعين لتدمع ، فأنت لا تذكر أحدًا إلا بكل خير، حتى من أساء إليك، لا نسمع منك إلا ثناءً عليه بشكل صارم ومباشر لتربيتنا على حسن الخلق، تشع بالحب والحنان لنا ولغيرنا وفيًا لرفاقك وأخوتك لا تنساهم من الدعاء والثناء، صابرًا ومحتسبًا مرنًا في تعاملك مع الآخرين.أسأله عز وجل أن تكون وأنت في الدار الآخرة راضيًا عنا، ونعاهدكَ السير على خطاك قائمين بصلة الرحم والود للأصدقاء والأخوة داعمين للضعفاء مانعين ألسنتنا الخوض فيما لا يفيد.
والدي العزيز لقد كرم الله الأب فذكره في كتابه العزيز «120» مرة، وورد لفظ الوالد في كتابه العزيز «7» مرات، بل ربط الله بين الأب والإيمان فقال جل من قائل: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا « إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) (سورة الإسراء) .وقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) [سورة النساء].
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا المعنى أيضًا، فسئل عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي، قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، وفي الصحيحين عن أبي بكرة الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - كررها ثلاثًا- قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين....».
والدي العزيز، كن هانئًا في قبرك فأولادك كما ربيتهم يدًا واحدة وقلب واحد.
وأخيرًا لا أقول إلا كما قالت «أروى» في رثاء أبيها «عبدالمطلب»، ومنها هذه الأبيات:
بكت عيني وحق لها البكاء
على سمحٍ سجيته الحياء
على سهل الخليفة أبطحي
كريم الخيم شيمته العلاء
على الفياض شيبه ذي المعالي
أبيك الخير ليس له كفاء
وكان هو الفتى كرمًا وجودًا
وبأسًا حين تنسكب الدماء
إذا هاب الكماة الموت حتى
كأن قلوب أكثرهم هواء
مضى قدماً بذي رأي مصيبٍ
عليه حين تبصره البهاء
** **
- د. سليمان بن عبد الرحمن الذييب