سارة المطيري
ما زلت أستذكر تلك اللحظات التي كنت أغرق فيها في شروحات محاضرات النقد الأدبي، خاصة تلك التي تناولت العصر العباسي، كان النقاد في تلك الحقبة يمتلكون اجتهادات أثرت بشكل كبير في مسار النقد الأدبي، ولكنني شعرت أن هذه الاجتهادات قد وصلت إلى نقطة توقف، كأنها تمثِّل المرحلة الأخيرة في هذا المجال. ومع مرور الزمن، لاحظت تطورًا ملحوظًا في النقد الأدبي إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. كان سؤالي حينها: كيف كان يقيم النقاد الأدب في العصور القديمة؟ وما هي الركائز التي استندوا عليها؟ لم يكن من السهل علي بداية فهم تلك القضايا النقدية المعقدة، حتى جاء كتاب «تاريخ النقد الأدبي عند العرب» للدكتور إحسان عباس ليكون نقطة انطلاق جديدة. في البداية، كان الكتاب يحمل عبئًا ثقافيًا كبيرًا. فقد تطلب مني الكثير من الجهد والمراجعة لفهم المعاني العميقة التي طرحها الدكتور عباس. فالكتاب يحمل مفاتيح لفهم النقد الأدبي عند العرب في تلك العصور. ركز الدكتور عباس في كتابه على قضايا عدة شكلت محاور نقاش كبيرة في الأدب العربي، مثل اللفظ والمعنى، والتوازن بين المطبوع والمصنوع، والوحدة والكثرة في القصيدة، إضافة إلى قضية الصدق والكذب في الشعر. كانت هذه الموضوعات تُشعل نار الجدل بين النقاد في تلك الحقبة، ويعكس كل نقد جزءًا من رؤية العصر ويكشف عن الرؤى الثقافية والنقدية للمجتمع العربي في ذاك الوقت ثم، في إحدى المحاضرات، وقع أمامي نموذج نقدي أثار اهتمامي بشكل خاص: أبو تمام. ذلك الشاعر الذي كان محط صراع نقدي طويل. يتحدث الدكتور إحسان عباس في كتابه عن أن أبا تمام كان محور جدل كبير في القرن الثالث، وأن هذا الجدل استمر في القرن الرابع، حيث واصل النقاد تناول شعره بين مؤيدو معارض.
يقول إحسان عباس في كتابه: «كانت الظاهرة التي يمثّلها أبو تمام في الشعر قد شغلت النقاد والمتذوقين في القرن الثالث، ثم ورثها نقاد القرن الرابع وأمعنوا فيها.» لم يكن أبو تمام مجرد شاعر عادي، بل كان يمثّل ظاهرة شعرية أثارت النقاشات حوله. وقد استوقفني أن البعض لم يتقبل أسلوبه، وأصبحوا يتهمونه بالسرقة والابتكار المبالغ فيه الألفاظ والمعاني. كان هذا الشاعر، على الرغم من تألقه، يواجه صعوبة في تقبل النقاد لأسلوبه الجديد، مما دفعهم للحديث عن»عيوبه» بشكل مستمر. كان البعض يتهمه بتعسف الاستعارة، وآخرون ينتقدون ابتداءاته البشعة واستخدامه للألفاظ الغريبة. رغم هذا الجدل، ظل أبو تمام محافظًا على نفسه كشاعر يبتكر ويبحث عن أسلوبه الخاص. لكن ما لفت انتباهي في هذا الصراع هو أنه في وقت كان يهاجم فيه البعض أبا تمام، كان آخرون يتخذون موقفًا دفاعيًا عنه.كان أبوبكر الصولي من أبرز المدافعين عنه، حيث ردّ على النقاد الذين حاولوا التقليل من شأنه. كان الصولي يرى أن بعض المعارضين كانوا يسعون للشهرة فقط عن طريق النقد، وأنهم يتبعون قاعدة قديمة تقول: «خالف تُذكر.» كان هذا الموقف يمثِّل دفاعًا ليس فقط عن أبي تمام كشاعر، بل عن فكرة الإبداع نفسه. كان الصولي يعتقد أن هذا النوع من النقد السطحي لا يستحق الالتفات. والواقع أن هذه القضية لم تكن مجرد نقاش حول شاعر بعينه، بل كانت تحمل رسالة نقدية أعمق حول طبيعة النقد الأدبي نفسه. يقول الدكتور إحسان عباس في هذا السياق: «كان موقف أبوبكر محمد بن يحيى الصولي رداً على أمثال من يحاولون أن يغمطوا أبا تمام حسناته.» هذه المقولة تلخص دفاع الصولي عن الشاعر في وجه منتقديه. ووفقًا لما ذكره الدكتور إحسان عباس في كتابه، فإن النقاد في القرن الرابع تناولوا شعر أبي تمام بنقد دقيق، وقالوا إن عيوبه تكمن في: «سرقته لبعض المعاني، وفي تعسفه للاستعارة، وبعض من وجوه البديع الأخرى، وفي الابتداءات البشعة، وفي استعماله لألفاظ وحشية غريبة، وفي استغلاق بعض معانيه.» كان النقد يتناول أبا تمام من عدة جوانب، وكان البعض يتهمه بالمبالغة في استخدام الألفاظ الجديدة والغريبة، وهي مشكلة كان قد أشار إليها أيضًا أحمد بن أبي طاهر.
وهكذا، استمرت رحلة أبي تمام في صراع النقد، سواء من جانب النقاد المعارضين الذين كانوا يركزون على عيوبه، أو من المدافعين عنه الذين يرون في هذا النقد محاولة لتقليص شأنه. وكما أشار الدكتور إحسان عباس، كان «الجانب الأكبر من جهد نقاد القرن الثالث في مجالسهم وفيما كتبوه يميل إلى إبراز عيوبه.»ولكن هذا الجدال كان أيضًا يشير إلى ظاهرة نقدية أوسع، حيث يتم التركيز على «عيوب» المبدعين بدلاً من تسليط الضوء على إيجابيات أعمالهم. هذا الصراع النقدي حول أبي تمام كان مثالاً واضحًا على كيفية تصارع الأفكار في تاريخ النقد الأدبي العربي. وقد جعلني أتساءل: لماذا نميل في كثير من الأحيان إلى التركيز على العيوب بدلاً من المحاسن؟ لماذا نجد أن النقاد أحيانًا يتحاملون على بعض الأعمال الأدبية من أجل تحقيق أغراض شخصية أو للحصول على الشهرة؟ في الواقع، هذا ليس أمرًا جديدًا، بل هو جزء من دائرة نقدية كانت وما زالت مستمرة، حيث يُنظر إلى الإبداع من خلال مرشحات ثقافية وأيديولوجية. اليوم، ونحن نعيش في عصر يتسم بتزايد النقاشات النقدية عبر منصات متعددة، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. فما نراه اليوم من تباين في الآراء حول الإبداعات الأدبية هو ذاته ما شهدناه في العصور الماضية. الاختلاف، الذي قد يُعتبر قوة دفع للأدب في بعض الأحيان، يتحول إلى أداة هدم في أحيان أخرى، ويصبح النقد أداة للإطاحة بالأعمال المبدعة بدلاً من دعمها. وما يحدث حول أبي تمام يعكس اليوم الصراع ذاته الذي يعيشه العديد من المبدعين في عالمنا المعاصر. فالنقد الأدبي، في النهاية، لا يزال ساحة جدل بين من يرون الإبداع من خلال عدسات شخصية وأيديولوجية، وبين من يقدرون الفن في جوهره بعيدًا عن الانحيازات. وبينما أتأمل هذا الواقع النقدي القديم والجديد، أجد أن مسؤولية الناقد لا تقتصر على الإشارة إلى العيوب، بل تتعداها إلى محاولة فهم الأدب في سياقه الثقافي والتاريخي. فمن خلال هذا الفهم العميق، يمكن للناقد أن يقدم تقييمًا نقديًا حقيقيًا، يساهم في إثراء المشهد الأدبي، ويجنب الأدب الوقوع في فخ النقد السلبي والمجرد من أي قيمة.