أ.د.صالح معيض الغامدي
سألني أحد المهتمين بالسيرة الذاتية وقراءتها: هل يمكن أن تكتب السيرة الذاتية بضمير المخاطب؟ والحقيقة أنني قد تفاجأت بهذا السؤال من هذا القارئ تحديدا، رغم أني أذكر أن مثل هذا السؤال قد عبر ذهني مرارا، وأنا أقرأ في أساليب الكتابة العربية الذاتية القديمة.
وهذا المقال هو مجرد تفكير كتابي يشبه العصف الذهني في البحث عن إجابة محتملة لهذا السؤال.
فبداية يمكن القول إن كتابة السيرة الذاتية من منظور ضمير المخاطب ممكنة نظريا، رغم غرابة هذا الأسلوب في السيرة الذاتية وندرته. ولعلنا نبدأ بتلمس هذا الأسلوب في النثر العربي القديم، فكثيرا ما نجد أن بعض الكتابات السيرذاتية العربية القديمة توظف ضمير المخاطب، وبخاصة في كتابات المتصوفة وسرودهم، ولعلنا نشير هنا إلى أشهر هذه النصوص وهي نصوص السيرذاتية التي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه « الإشارات الإلهية»، وكذلك ما نجده في كتابات الحارث المحاسبي مثل كتاب «التوهم»، وغيرهما من الكتب والنصوص.. ففي هذه الكتابات نجد أن الكتاب يتحدثون عن (أو إلى) أنفسهم بضمير المخاطب، ضمن ضمائر أخرى بطلبيعة الحال. وهذه النصوص التي أشرت إليها ليست بالطبع سيرا ذاتية ( autoboigraphies )، وإنما هي نصوص ذات طبيعة سيرذاتية (autobiographical).، في بعض سياقاتها.
أما توظيف هذا الضمير في السيرة الذاتية الحديثة فلم تمر بي أي سيرة ذاتية كُتبت كلها بهذا الضمير، رغم أنني لم أبحث في هذا الأمر بتوسع من قبل، ولكن هناك بعض التوظيف لهذا الضمير فيما يعرف بتقنية الحوار الداخلي أو المنولوج في بعض النصوص السردية مثل الرواية والقصية وحتى في بعض السير الذاتية … وغيرها.
والحقيقة أن توظيف هذا الضمير في كتابة السيرة الذاتية قد يعد ضربا من ضروب التجريب الإبداعي، الذي يمكن لكاتب السيرة توظيفه في سيرته، وهو بذلك يشرك القراء (بمن فيهم الكاتب نفسه) في تجاربه الحياتية وكأنه يعيش معه أو من خلاله، ويجعله أكثر تفاعلا مع سيرته وأكثر تفهما لها وربما أكثر تعاطفا معها. على أن هذا النوع من التجريب يحتاج إلى مهارة عالية، وبخاصة إذ أراد كاتب السيرة الذاتبة توظيف ضمير المتكلم في سيرته كلها من أولها إلى آخرها.
إن كتابة السيرة الذاتية بضمير المتكلم قد تكون تقنية مثيرة يروي من خلالها الراوي/ الكاتب سيرته لنفسه بنفسه، وهذا لا يختلف في جوهوه كثيرا عن السيرة الذاتية بضمير المتكلم، فالسارد فيها قد يكون شخصية مختلقة يروي أحداثا وقعت لذاته في مراحل متعددة من حياته في الطفولة والشباب والكهولة، وهو في كل مرة ذات مختلفة وليس ذاتا واحدة ثابتة، ولذلك فلا يختلف هذا السرد للذات لذات غائبة عنه لذات مخاطبة، ففي الحالين لا تكون شخصية كاتب السيرة الذاتية متطابقة تماما مع الشخصية المسرودة. ولذلك فأعتقد أن كتابة السيرة الذاتية لا يمكن أن تنجز بضمير المتكلم فحسب، بل يمكن نظريا إنجازها بضمير الغائب وضمير المخاطب على حد سواء!!