د.نادية هناوي
منذ القدم والإنسان دائم البحث عما يوفر له رغباته ويبعد عنه مخاوفه، فيكون هو وحده المتحكم بواقعه. ولا فرق عنده إن كان هذا التحكم عقلانياً أو غير عقلاني، مبنياً على حساب وجود غيره من الكائنات الحية أو غير مبني. ويزخر التراث الإنساني بالكثير من المرويات التي فيها الحيوان هو الكائن العاقل، موئل الحكمة ومصدر المعرفة. وهذا ما نجده في قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل (1110م - 1185 م) وفيها نموذج إنساني للتفكر العقلاني في دور الحيوان في إكساب الإنسان فلسفة خاصة في الروح والجسد، حيث الروح واحد - بشرياً كان أو حيوانياً - وأعضاء الجسد ظاهرة وباطنة، ومنها ما يتميز به الإنسان عن الحيوان.
الدماغ أهم عضو به يتميز الإنسان وهو يستمد الروح من القلب. وهناك أعضاء يشترك فيها الإنسان مع الكائنات الحية جميعاً في مسائل التغذية والنمو وأن الحيوان والنبات على أنواع، وأن الكائن البشري يختلف في عريه وفي الوسائل التي بها يدافع عن نفسه وبفكره الذي به يصنِّف ويقسم ويميز (كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوان فيرى كل شخص منها واحداً ولهذا النوع من النظر ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفاً صنفاً، فكان يرى أشخاص كل فرع يشبه بعضه بعضاً في الأعضاء الظاهرة والباطنة والإدراكات والحركات .. وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد).
وقد دعت فلسفة ابن طفيل هذه السهروردي إلى كتابة قصة بطلها حي بن يقظان، وأحداثها تدور حول الغربة والاغتراب ولكن البعد الفلسفي في سردها أقل، قياساً بما فيها من بعد أخلاقي. وتبدأ بالقول: (سافرت مع أخي عاصم من ديار ما وراء النهر لتصيد طائفة من طيور ساحل لجة الخضراء، فوقعنا بغتة في قرية الظالم أهلها أعني مدينة قيروان..).
ولابن سينا رسالة بالعنوان نفسه (حي بن يقظان) سابقة لقصتي ابن طفيل والسهروردي، وهي مختلفة في رمزيتها عن القصتين السابقتين، وتبدأ بالسارد الذاتي وقد طلب منه معشر الإخوان أن يقص قصته، فاستجاب لهم وقال: (إنه قد تيسرت لي حين مقامي ببلادي برزة برفقائي إلى بعض المتنزهات .. فبينما نحن نتطاوف إذ عنَّ لي شيخ بهي قد أوغل في السن.. فقال: أما أسمي ونسبي فحي بن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس وأما حرفتي فالسياحة في أقطار العالم..).
إن هذه القصص تعد مطورة لقالب المقامة بوصفها قصة قصيرة؛ أولاً بسبب طولها، وثانياً لتناقص مساحة السرد غير الواقعي وتزايد نسبة السرد الواقعي فيها، وثالثاً بقاء اللاواقعية قاعدة لها وبفواعل بشرية وحيوانية. وما من مجال لفهم أدوار هذه الفواعل بالتحليل النفسي أو التفسير الأخلاقي وحده، بل تفهم في إطار فكري تأملي يرصد أجوبة عن مسائل ميتافيزيقية حول الحياة والموت والوجود وما بعده. وبهذا تتداخل الفلسفة بالسرد والسرد بالعلم، فتغدو لكل عنصر من عناصر السرد الحية، البشرية والحيوانية، دلالة فكرية حسب بيئاتها الحيوية وقوة رمزيتها الروحية والوجدانية.
ومن دواعي تطويل ابن طفيل لقصته (حي بن يقظان) رغبته في عرض معارفه العلمية، متبعاً في ذلك منهج التجريب العلمي؛ فناقش قضايا تدخل في باب علم التشريح وعلم الأجرام وفسيولوجية الكائن الحي في نموه وما يجري من تغيير في كل عضو من أعضائه، كما شرح كيفية تدرج الإنسان في مراتب التعلم من البسيط إلى المعقد وأساليب تعايشه مع المحيط مكتسباً معارفه ومواجهاً واقعه.
ولقد استغرب الأستاذ مدني صالح أن يقوم (حي) بهذا التجريب وهو في مرحلة مبكرة من عمره. وعلل الأمر بالمؤلف وأن قصده هو البحث العلمي، ولذلك لم يهتم بعناصر الإثارة والمغامرة في السرد ولا عُني بالتأثيرات الدراماتيكية. ودعم مدني صالح تعليله بأن ابن طفيل واحد من كبار الأطباء مما أهله أن يذكر ما يشاء بأسلوب التقرير المباشر، وأن ابن طفيل عمد عن وعي إلى تقديم طريقته العلمية، لأجل إحاطة القارئ علماً بالطريقة التي اتبعها حي بن يقظان. وعلى الرغم مما في هذا التعليل من اعتداد بعلمية فكر ابن طفيل، فإنه بالمقابل قلل من أهمية البناء السردي للقصة، كونه وضعها على طريق بلورة قالب القصة الطويلة. وهذا ما فتح الطريق أمام السرد الأوروبي الحديث لأن يقع على قالب الرواية. وهذه حقيقة نقدية عمد كثير من المستشرقين إلى إنكارها وتسويف واقعيتها، من خلال التركيز على فكرة أن ابن طفيل اقتبس قصته من أساطير وحكايات يونانية مثل المستشرق ليون جوتيه الذي اهتم بالبحث في الشبه بين حي بن يقظان والكريتك، وتغافل عن البحث في انتحال دون انطونيو دو تريزانيو لقصة (حي بن يقظان) أو البحث في أثر (حي بن يقظان) في كتاب روبنسون كروزو !.
أما المستشرق غرسيه غومس فوضع دراسة ادعى فيها أن الآراء الفلسفية في هذه القصة مأخوذة من إحدى الأساطير التي نسجت حول شخصية الإسكندر الأكبر ذي القرنين، وتتمثل في أسطورة الملك والصنم. وتابعه بعض الباحثين العرب ومنهم أحمد أمين الذي وصف دراسة غومس بالعميقة والشاملة، مؤكداً أن الشبه ظاهر من غير شك، وأنها الأصل الذي عنه أخذ ابن طفيل قالب قصته. ليس ذلك حسب، بل رأى أن قصة حي بن يقظان تشبه كتاباً يونانياً اسمه ايمن دريس منسوباً إلى هوملص، هو عبارة عن محاورة امتزج فيها المذهب الأفلاطوني بمذاهب قدماء المصريين!!. وفاتت الباحث أمين فرضية تأثر ابن طفيل بالقص القرآني والتي هي سابقة لفرضية تأثره باليونان والمصريين. ونرى أن ما ابتكره ابن طفيل في هذه القصة هو أنه مزج الفلسفة بالعلم، وجعل للحيوان مركزية سردية وأنه بمزج الواقعية باللاواقعية جعل الإنسان مركزاً. وهذه المشاطرة التخييلية في المركزية هي التي ميّزت السرد الشرقي عموماً كامتداد لمرويات العصور القديمة التي فيها المركزية للحيوان والإنسان. هذا من جانب ومن جانب آخر جعلت تلك المشاطرة من اللاواقعية قاعدة لتقاليد السرد القديم في العصور الوسطى، ووصل الأمر في نهاية هذه العصور إلى ابتكار قالب القصة الطويلة. وفي هذا دليل على ما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية من مكانة، فيها بلغ الفكر الإنساني مراتب تتعدى المركز - إنساناً كان أم حيواناً - إلى ما هو مركز المركز.
وما أن انتقلت تقاليد السرد العربي القديم إلى أوروبا حتى تأثر بها الكتّاب بدءاً من القرن الثاني عشر للميلاد. وأخذت في عصر النهضة تطرأ بعض التطويرات على تلك التقاليد. ومن الكتّاب الأوروبيين المساهمين في ذلك دانيال ديفو الذي استلهم الجانب الخيالي من قصة حي بن يقظان فكتب (روبسون كروزو) واستلهم غيره جوانب أخرى فلسفية وعلمية لكن بقصد مركزة العنصر الآري الأبيض.
وفي عصر الأنوار الاستعمارية وضع الفكر الأوروبي لنفسه مواضعات كان من نتائجها رفض اللاواقعية والاستهانة بالخيالية – التي هي أعلى درجة من الخيال والتخييل - فعدت تخريفاً وابتذالاً، واضمحلت الفواعل الحيوانية وصارت الواقعية هي الاتجاه السردي الغالب على مستوى الشكل والموضوع، وصار الفرد الأوروبي لوحده مركزاً ضمن عالم يحكمه نظام رأسمالي وتهيمن عليه القوى الاستعمارية. والفارق جوهري بين الأدب الإنساني والأدب الاستعماري، فالأول يتخذ من الأخلاق مرتكزاً كحاجة إنسانية عامة إلى منظومة بها تتشذب طباع البشر ومقاصدهم وبهذا وحده استدل العرب على أساليب الثقافة والتحضر. أما الأدب الاستعماري فيتخذ من العالم مرتكزاً ومن المادة مبتغى ورأسمالاً رمزياً به يعبِّر عن أنانية الفرد الأوروبي وذاتيته في إثبات تفوقه وقوته.
ولم يوظف كتّاب السرد الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين شخصية الحيوان إلا بالقدر الذي يضمن لهم الواقعية من دون أي إسراف في التخييل. وقلَّ بشكل ملحوظ سرد الحيوان في القصص والروايات. ليس لأن الحيوان يوقظ في النفس البشرية المخاوف البدائية ويستثير ميثولوجيا الخرافات والأساطير حسب، بل لأن الواقعية أيضاً لا تسمح بالسياحة التخييلية إلا بالقدر الذي معه لا يفقد الإنسان مركزيته فلا يكون عرضة لأن يتساوق - رغب بذلك أو لم يرغب - مع الحيوان ويجاريه. وإذا حصل ووظف الكاتب شخصية الحيوان في السرد الواقعي، فانه يجعل الإنسان دوماً على قمة الهرم بوصفه أعلى مرتبة ومكانة من كل الأحياء الأخرى سواء في غرائزه المكبوتة أو رغباته المعلنة أو مدركاته الحسية الظاهرة والباطنة. وبهذا غدا الإنسان هو محور السرد الواقعي والكائن الذي يسيطر بعقله الواعي وغير الواعي على العالم المادي بنظاميه: الطبيعي بما فيه من كائنات وموجودات، والحضاري بما فيه من هيمنة على الثقافات واللغات والأعراق والأجناس.