شهدت السينما السعودية في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا، حيث أُنتجت أفلاماً تجسد بعمق الموروث الثقافي والديني والاجتماعي الغني للمملكة العربية. ومع تزايد الاهتمام العالمي بهذا النتاج، أصبحت الترجمة ضرورةً حتمية لنقل هذه الثقافة إلى الجمهور الدولي، إلا أن هذه الضرورة تحمل في طياتها تحدياً كبيراً؛ بسبب طبيعة الموروث الثقافي السعودي الفريدة؛ يتمثل هذا التحدي بصعوبة نقلها إلى لغة أخرى مع المحافظة على جوهرها وعمق معانيها نقلها بلغة آخرى دون فقدان جوهرها ومعناها العميق.
أهمية ترجمة الموروث الثقافي في السينما السعودية:
تُعد الترجمة في الأفلام أداةً قويةً للحفاظ على الهوية الثقافية ونشرها عالميًا. ولا تقتصر الأفلام المنتجة في السينما السعودية على تقديم القصص المحلية، بل تُسهم في تعزيز التفاهم الثقافي بين الشعوب، إذ تفتح بدورها نافذة للعالم على الثقافة السعودية والمجتمع والتي من خلالها - ولابد وأن يرافقها ترجمة متقنة عالية الجودة- سنتمكن من نقل العادات والتقاليد والمعتقدات الثقافية السعودية إلى جمهور واسع، مما يساعد في كسر الصور النمطية وتعزيز الفهم المتبادل.
وتعمل الترجمة على تعزيز الحضور العالمي للسينما السعودية مع تزايد اهتمام المهرجانات الدولية بها، ومن هذا المنطلق، ندرك أن الترجمة لا تقل أهميتها عن إنتاج الفيلم وكتابة نصه؛ لضمان وصول الأفلام إلى الجماهير العالمية، مما يسهم في انتشار الإنتاجات السعودية على نطاق أوسع.
ولا يقتصر نفع الترجمة وأهميتها في هذا السياق على الجمهور الدولي، بل يمتد ليصل إلى أبناء الوطن اليافعين الذين اغتربوا مع أهلهم لطلب العلم لسنين عدّة مما أدى إلى عُجم ألسنتهم، فكان للترجمة دور فعال في مساعدة هؤلاء على فهم تراثهم وتمكينهم من معرفة المرادفات المنتقاة للدلالات الثقافية السعودية فينشأ جيلٌ واعٍ بحاضره قادرٌ على نقل ماضيه باعتزاز.
إلا أن واقع الترجمة في هذا السياق ليس ورديًا وممتعًا دائمًا كما نعتقد، إذ يخالجها بعض التحديات والعقبات التي إما تتعلق بطبيعة الدلالات الثقافية وتفردها أو بتنوع اللهجات المناطقية السعودية المستخدمة في هذه الأعمال السينمائية. فبعض الدلالات الثقافية يتفرد بها السعوديون عن غيرهم من سكان المنطقة والعالم، فلا نجد لها أحيانًا مرادفات دقيقة في اللغات الأخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «الشيلات» والأهازيج المرافقة للعب صفوف الرجال التراثي والتي تحمل معاني ثقافية عميقة تتجاوز مجرد الكلمات، والتي قد تؤدي ترجمتها حرفيًا إلى تشويه هذا الجمال الأصيل.
ومما تفرد به السعوديون أيضًا: الآهات واختلافاتها، التي أثرت الموروث بعبارات مجازية، وتعابير اصطلاحية، حيث تميزت بعضها بالتلاعب اللغوي. مما يتطلب إيجاد بدائل تعبّر عن الجوهر دون فقدان المعنى الأصلي.
وكما أردفت سابقاً أن موروثنا الثقافي لا يقتصر على الاجتماعي فقط بل على الديني أيضًا، فتميزنا باختلاف القيم والمفاهيم الدينية التي قد تكون غير مألوفة للجمهور الدولي، مثل العادات المتعلقة بالضيافة أو المناسبات الدينية آو الاجتماعية التقليدية، مما يتطلب تفسيرات دقيقة؛ لإيصال جوهر المعنى دون الإخلال بالسياق الأصلي.
ولوجود مثل هذه التحديات، نحا المترجمون لاختيار استراتيجيات تساعدهم في نقل المعنى دون الإخلال بالأصالة ومنها: استخدام استراتيجيات التقريب(domestication) : وهي تكييف الدلالات الثقافية؛ لتتناسب وثقافة الجمهورالمستهدف بدلًا من ترجمتها حرفيًا حتى وإن كانت الترجمة الحرفية مقبولة ودارجة. فمثلاً في فيلم حد الطار (2020) استخدم البطل دلالات ثقافية سعودية مثل «المجلس“ و»الديرة“ .وننوه هنا أن معنى كلمة «المجلس» يختلف في ثقافتنا عن المعنى الحرفي council؛ فالأول يعني مكان استقبال الضيوف في المنزل، أما الآخر فله مدلولات سياسية أكبر.
أما في ترجمة كلمة «الديرة»، فيمكن ترجمتها “hometown” والتي تعني مسقط الرأس بدلاً عن village والتي تعني القرية، حيث إن المفهوم في سياقنا السعودي لا يعني بالضرورة قرية صغيرة، بل يشير إلى الوطن والبيئة التي نشأ فيها الفرد.
ومن استراتيجيات التقريب الدارجة استخدام المرادف الثقافي أو الوظيفي، ويتم فيهما استبدال الدلالات الثقافية بأخرى أكثر وضوحاً وقبولاً اصطلاحياً واجتماعياً للمشاهدين دون الإخلال بعمق المعنى الثقافي. فعلى سبيل المثال، تكرر في حوار فيلم وجدة (2012) كلمة ”عقال“ فقد يترجمها المترجمون بطريقتين، إما بترجمتها إلى headband والتي تعني ربطة رأس أو(agal) بوضع الكلمة بين قوسين؛ ووضع القوسين هنا يدل على أن الكلمة دخيلة من لغة آخرى. أما عن رأييّ الترجميّ، فأرى أن تترجم إلى traditional headband ولكن ذلك بالطبع يخضع لسياسات القناة التي تتولى ترجمة العمل.
وأخيرًا وليس أخرًا، إن ترجمة الموروث الثقافي في السينما السعودية تتعدى كونها عملية نقل لغوي، بل هي فن يتطلب توازنًا بين الحفاظ على الهوية الثقافية وجعل المحتوى مفهومًا عالمياً. ومع ازدهار السينما السعودية وازدياد الاهتمام بها في المهرجانات العالمية، تزداد أهمية دور المترجم السعودي في بناء جسور ثقافية تربط المملكة ثقافيًا بالعالم؛ لضمان الحفاظ على جوهر الثقافة السعودية وأصالتها.
** **
د.عبير بنت محمد القحطاني - أكاديمية ومترجمة لليونيسكو في قضايا الاستدامة والثقافات