د.عبد العزيز سليمان العبودي
يقول إيليا أبو ماضي:
«جعتُ والخبزُ وفيرٌ في وطابي .. ليس بي داءٌ ولكنّي امرؤ.. لستُ في أرضي ولا بين صحابي».
تحمل هذه الأبيات في طيّاتها مرارة الاغتراب، وجوع الروح لا جوع المعدة، وألم الغياب لا ألم المرض، البعد عن الأرض، عن الصحبة، عن الذكريات.
قد كنت في حديث عابر مع عامل بناء هندي، روى لي أنه جاء من مقاطعة كيرلا، لكنه يعد العدّة للعودة إليها نهائيًا، نزولًا عند شرط خطيبته: أن يعيشا في الوطن، حيث الأهل والأحباب. كانت تقول له : «حياتي أعيشها مرة واحدة، ولن أكرر مأساة والدي الذي قضى عمره مغتربًا في الخليج، وعاد كهلاً لا يعرف شوارع مدينته». العجيب أن كثافة المهاجرين من كيرلا خلّفت فجوة في سوق العمل، فحلّ محلهم عمّال من بنغلاديش، وأسهموا بتكوين طبقة جديدة من الملامح والثقافات داخل بلد لم يكونوا جزءًا منه في الأصل، لكنهم أصبحوا من نسيجه.
الهجرة ليست خبرًا على هامش نشرة المساء، بل شتات يعيد تشكيل الجغرافيا والذاكرة.
يقول جبران خليل جبران: «الوطن ليس حيث وُلدت، بل حيث تجد كرامتك».
من هذا المنطلق، يهاجر الآلاف بحثًا عن رزقٍ كريم، عن أملٍ في غدٍ أفضل، حتى لو كان ذلك على بعد آلاف الأميال من الديار. ففي المطارات، وعلى الأرصفة، في المقاهي الخلفية للمدن الكبرى، ترى وجوهًا مألوفة وغريبة في آن معاً. تُسلّم على أحدهم فيرد عليك بلهجته المغربية، أو لكنته المصرية، أو نبرته السودانية، تجمعهم وحدة الموقف وإن اختلفت اللهجات. ما الذي يدفع هؤلاء إلى الرحيل؟ إنها الحاجة، والفقر، وانسداد الأفق، وأحيانًا الخوف من رصاصة طائشة أو نظام لا يرحم. يقول أفلاطون: «الفقر لا يولد فقط من قلة المال، بل من قلة الخيارات».
في الجانب الآخر من المشهد، تقف الدول الغنية تبحث عمن يملأ الفراغ. شيخوخة السكان، عزوف الشباب عن المهن اليدوية، ونقص المهارات. وبين هذا وذاك أصبحت الهجرة ضرورة أكثر من كونها اختيارًا. وهي التي تضطر العامل إلى أن يترك أسرته ليبني بيتًا لا يسكنه، والطبيب أن يغادر قريته الصغيرة ليعالج غرباء في مدينة لا يعرفها.
المهاجر لا يحمل حقيبته فقط، بل يحمل معه تاريخه، ألحانه، نكهة طعامه، ذاكرة أعياده، وألم وداعه الأخير. يخطو نحو المجهول حالمًا بوطن بديل، لكنه يصطدم بلغة لا يعرفها، ونظرات لا ترحّب به في الكثير من الأحيان. بعض المجتمعات ترى فيه غريبًا يجب أن يذوب، وبعضها الآخر يرى فيه فرصة لاكتشاف الآخر. وهكذا، تنشأ ثقافات جديدة، هجينة، لا هي الأصل ولا الفرع، بل مزيج يصعب تفكيكه.
في نيويورك، يمكن أن تتناول إفطارك اللبناني، وغداءك الباكستاني، وعشاءك المكسيكي. في لندن، تمشي في شوارع يتعالى فيها الأذان من مسجد صغير بين بقالتين هنديتين. في باريس، تجد نفسك في أحد مقاهي شمال اليمن تشرب فيه القهوة بالهيل. هذا التداخل لا يمرّ دون مقاومة، فهناك من يرى في المهاجر خطرًا على الهوية، وتهديدًا للانسجام، رغم أن الواقع يقول غير ذلك: الهجرة أضافت، ولم تنتقص؛ أثرت، ولم تضعف.
لكن لا شيء يمرّ دون ثمن. أبناء المهاجرين، خاصة الجيل الثاني والثالث، يجدون أنفسهم بين عالمين، لا ينتمون بالكامل إلى هذا ولا ذاك. يتقنون لغة لا يتحدث بها أجدادهم، ويحتفلون بأعياد لا يفهمها أقاربهم في وطنهم الأصلي. وكم من مهاجر يعيش في المنفى، حتى لو حمل جوازًا جديدًا واسم شارع أوروبي. بعض الدول تفهم أن الاندماج لا يعني الذوبان، فتقدّم برامج تعلم اللغة، وتفتح أبواب المدارس، وتحفّز الحوار الثقافي. ودول أخرى، تقيم الجدران القانونية والنفسية، فتزيد من عزلة المهاجر وتحرم المجتمع من فرصة نضجه وتنوعه. فالهجرة، في جوهرها، بحثٌ عن معنى. قد يكون هذا المعنى ماديًا، كمن يرسل المال لأسرته كل شهر، أو إنسانيًا، كمن يريد حياة كريمة تليق بآدميته. لكنها أيضًا محنة تتطلب الصبر والجَلَد.
يقول نيتشه: «من له سبب يعيش من أجله، يمكنه تحمّل كلّ شيء». والمهاجرون، على اختلاف أسبابهم، يحملون في داخلهم هذا السبب، هذه الشعلة الصغيرة التي تدفعهم إلى البقاء والاستمرار.
وفي النهاية، الهجرة ليست فقط حركة جسدية، بل رحلة روحية، تعيد تشكيل العلاقة بالذات والعالم. من يهاجر، يعود أو لا يعود، لكنه لا يرجع كما كان أبدًا. فيصبح الوطن نسبياً، والانتماء متعدّدًا، والهوية ساحة مفتوحة للحوار الدائم بين الذاكرة والواقع، بين الأصل والمآل.