ثمة مبررات عدة تدفع الكاتب إلى إعادة طباعة كتبه، بعضها يتعلق بتجدد المفاهيم المعرفية، وأخرى بنفاد النسخ المطبوعة، وبحسب اختلاف ظروف الكتّاب، ونوعية الحقل المعرفي، تختلف المبررات وتتعدد.
وكي يضمن الكاتب نجاح الطبعات التالية واستمرار الطلب، فهو يخضع الكتاب للمراجعة الاحترافية، مع العناية بتصميمه وتنسيقه، التي قد تشمل تغيّر الغلاف بمكوناته المختلفة؛ ولاسيما مع تغير الناشر، وامتداد الفارق الزمني بين الطبعة الأولى وما يليها؛ ولكن مع ثبات الناشر، وصدور الطبعات بتتابع زمني منطقي، وتطابق النص الروائي في الطبعات المتعددة، فإن تغير العتبات الخارجية يطرح سؤالًا عن علاقة هذا التغير بالنص الروائي؛ أطرح هذا التساؤل مع صدور الطبعة الثانية من رواية ابنة ليليت للروائي أحمد السماري في مطلع العام 2025م؛ وقد صدرت الطبعة الأولى منها في عام 2024م، وهما صادرتان عن دار رامينا؛ ذلك أن عتبة الغلاف تعد مدخلًا ابتدائيًا، ومؤشرًا دالًا على مضامين الرواية، وهو بمكوناته البصرية التي تتضافر فيهما اللوحة التشكيلية مع اللغة يعطي فهمًا مبسطًا عن المحتوى؛ فالغلاف ترجمة بصرية للنص المكتوب، لأنه يُستلهم من مكونات البناء الروائي، التي هي: الشخصية، والمكان، والزمان، والحدث روح الفكرة؛ هذه الروح التي تجعل المتأمل في فضاء الغلاف يعيد قراءته وتأويله مرة بعد أخرى.
كما أن الغلاف عتبة المواجهة الأولى مع القارئ المشارك في صنعه، ذلك القارئ الذي أنتج التصميم بعد قراءة العمل، إذ إن إنتاج الغلاف هو قراءة أولى من الفنان الذي التقط زاوية لافتة من النص وترجمها في لوحة فنية وافقه عليها المؤلف لتصبح واجهة عمله الإبداعي، فماهي زاوية الفنان الالتفاتة الفارقة بين الغلافين في رواية ابنة ليليت؟
يجد من اطلع على غلاف الطبعتين تغيرًا في الانطباع أو التصور الأولي الذي يتركه كل غلاف منهما في الذهن، وذلك بسبب اختلاف اللوحة التشكيلية بألوانها ومكوناتها، وهي محل النظر والتأمل؛ وعليه فيمكن وصف الغلافين، على النحو التالي:
تتمثل العناية اللونية في غلاف الطبعة الأولى الصادرة في عام 2024 م باعتماد ثنائية اللونين: البنفسجي الفاتح على الغلاف الأمامي فيما جاءت خطوط الكتابة باللونين الأحمر والبنفسجي الغامق، أما الغلاف الخلفي فجاء بدرجة واحدة من اللون الأصفر الرملي أما الكتابة فكانت باللون الأسود.
ويحتضن اللون البنفسجي في الغلاف الأمامي بقية مكونات اللوحة التي تبرز أهم عناصرها في أقصى الجانب الأيسر من الغلاف؛ إذ يظهر جزء من مبنى لا تتضح تفاصيله ولا تحدد هويته ولا يظهر للقارئ إذا كانت الصورة من داخل المبنى أو من خارجه، ويمكن القول إنه نافذة لمبنى قد يكون منزلًا، وتقف أمام هذا الجزء من المبنى امرأة لا تظهر ملامحها الجسدية؛ إذ تبدو كتلة جسدها في قوام لا تبرز تضاريسه، إلا فيما يبرز التفاف ذراعيها حول بعضهما البعض، وسواد شعرها الطويل الذي يلتف آخره على ما يشبه الوثيقة، فيما يحيل لون الشعر الأسود إلى مرحلة الشباب التي تنتمي إليها المرأة.
وفي تفاصيل الجهة اليمنى من الغلاف يظهر آثار بقع لونية ممتزجة وهي في موقعها ذلك تكون موازية للجهة الخلفية من المرأة تمامًا، وهي تشبه خربشات أقدام قطة، أما أعلى الغلاف فيمتد اللون الأحمر من اليمين إلى اليسار ويعلو هذا الامتداد اللوني امتداد لوني آخر يجمع بين الأسود والأصفر والبني بدرجتيه، وهي ألوان يمكن مقاربتها بألوان السقف التي تأخذ جزءًا من ألوان المبنى ولاسيما اللون الأصفر، وهو ما يغلّب لدى القارئ – بعد تأمل - أن اللوحة من داخل المبنى وليست من خارجه.
يتقاسم الغلافان في الطبعة الثانية الصادرة في العام 2025 م ثنائية اللونين الأصفر المموج باللون الأخضر في الغلاف الأمامي، وعليه خطت عتبتا المؤلف والعنوان باللونين الأخضر والبنفسجي، فيما غطى اللون الأحمر الصفحة الأخيرة من الغلاف الخلفي وقد كتبت الشهادات التي اختلفت عما كتب في الطبعة الأولى باللون الأبيض.
تبدو معالم اللوحة التشكيلية أكثر وضوحًا في هذه الطبعة، ففي الجانب الأيسر من الغلاف اتضحت هوية المبنى القديم، الذي يظهر في أعلاه نافذتان، ومدخنة، ويتوسطه ثلاثة نوافذ في الطابق الثاني، وبالكاد يتبين للقارئ معالم الباب في زاوية المبنى، والذي تؤكد العتبتان وجوده، ويقابل هذا المبنى من الجهة اليمنى مبنى آخر يشبهه في استقامته، وفي عدد الأدوار المتماثلة، وكذلك النوافذ والأبواب المتناظرة، فيما يظهر من أقصى اليمين امرأة تتجه بخطواتها نحو المبنى على الجهة اليسرى، وفي هذا الغلاف تبدو هيئة المرأة أكثر وضوحًا من حيث لون الملابس التي ترتديها، فثوبها وحجابها منسوجة من اللون الأبيض بالكامل، لكن تناثرت عليهما الألوان الثلاثة: الأخضر والأحمر والأرجواني، أما يداها فقد ظهرت منسدلة، فيما رُسم جسدها وخصرها بشكل رشيق وأكثر تناسقًا، وقد انفرطت خصلات شعرها من الخلف متحررة من الحجاب الذي ترتديه.
ويتمثل ارتكاز المعنى وتحولاته بين اللوحتين في ثلاثة محاور؛ هي: اللون، وهيئة المرأة، والمبنى (المنزل)، أما اللون: فقد تفرد الغلاف الأمامي في الطبعة الأولى باللون البنفسجي، والغلاف الخلفي من الطبعة الثانية باللون الأحمر، فيما كان اللون الأصفر حاضرًا بين الغلافين؛ فهو في الغلاف الخلفي للطبعة الأولى، وبه افتتح الغلاف الأمامي للطبعة الثانية، ويمكن القول إن الابتداء باللون البنفسجي هو إشارة إلى طبيعة حياة الشخصية الروائية التي تقلبت بين حالات الحزن والكآبة والظلم، وهو الإيحاء الذي يشير إليه هذا اللون، فقد تعرضت جواهر لأنواع من الظلم والقهر والتمييز العنصري، فيما يدل اللون الأحمر الذي في أغلقت به الرواية في طبعتها الثانية على قوة الخلق والعاطفة والميول النبيلة التي جعلت جواهر في أخريات حياتها تعود إلى الأسرة، وتوثق الروابط العائلية وتقسم ثروتها بين ابنتها التي تركت حضانتها لجدتها لوالدها، والمؤسسات الخيرية.
في حين يدل اللون الأصفر الذي يمتد من خلفية الطبعة الأولى إلى أمامية الطبعة الثانية على استمرار الانتماء إلى البيئة الصحراوية والوطن الذي تخرج منه ثم تعود إليه يتآزر مع هذه الفكرة هيئة المرأة العائدة في الغلاف الثاني، إضافة إلى الدلالة التي يحملها هذا اللون على الضوء والإشراق والنشاط والدفء، وهي سمات ظهرت في شخصية جواهر المقبلة على العمل والعطاء من منهل علمها، كما يشير هذا اللون إلى حب التنقل، يؤكد ذلك الرحلة التي عاشتها جواهر متنقلة بين بلدان عدة وهويات مختلفة.
تأتي هيئة المرأة على الغلافين بوصفها مرتكزًا ثانيًا في قراءة الغلاف؛ إذ تشير القراءة الأولية للغلافين بما فيها من مؤشرات ودلالات بصرية على اختلاف الدلالة بينهما، فاختلاف هيئة الجسد هو انعكاس لكآبة المرأة (جواهر) وإنهاكها وانطوائها وامتلاء جسدها بتلك الصورة تعبر عن اكتنازها بالألم الذي يوازي هيئتها الثقيلة، إضافة إلى أن عدم اتضاح معالم الصورة ينسجم وحالتها المشوشة في ظل غياب التصور عن مستقبلها، وقلقها بشأن قراراتها التي تنوي اتخاذها، أما رشاقتها في اللوحة الثانية فهي انعكاس لاستقرار (جواهر) ووضوح خطتها الحياتية، وهي هيئة تتسق ومضمون الرسالة التي كتبتها وعبرت فيها لابنتها عن رحلتها السعيدة في كل مراحل حياتها وقناعتها بكافة قراراتها، وصولًا إلى المرحلة التي تعيشها وهي عائدة بخفة وسعادة إلى مكانها الحقيقي الوطن.
ويمثل (المبنى - المنزل) المرتكز الثالث في قراءة الدلالة بين الغلافين؛ فانكشاف المبنى (المنزل) في غلاف الطبعة الثانية، يحيل إلى العلاقات الأسرية التي كانت جواهر جزءًا خارجًا عنها قبل خروجها من الوطن، وبعد خروجها وقبل عودتها الأخيرة، وهذا المبنى لم تتضح هويته في الطبعة الأولى، ولكنه يظهر بعد اختيارها العودة إلى تلك الأسرة الممتدة التي يكشف عنها توجه المرأة إلى المبنى.
ولهذا المبنى دوره في الإشارة إلى امتداد السياق الزماني والمكاني واتساعهما، فالزمن يمنح الإنسان بعد الرؤية واتضاحها؛ ويظهر أثر هذا الامتداد على تفاصيل المبنى التي تمثلت في التغيرات العديدة التي شملت أجزاء اللوحة مع قدم المبنيين في غلاف الطبعة الثانية.
ويخبر التقابل المكاني بين المبنيين - وهما المبنى الأول الذي اختفى جزء منه في غلاف الطبعة الأولى، وظهر في الطبعة الثانية، وهي تتجاوزه باتجاه المبنى الثاني في يسار الغلاف - إلى ذلك العبور المكاني في العودة إلى الوطن أولًا، ثم استقرارها في الدمام بالقرب من أفراد أسرتها، واختيارها بعد ذلك الإقامة الأخيرة في البحرين مع والدتها باميلا.
فغلاف الطبعة الأولى الذي هو لوحة فنية تميل إلى التجريد تُجسّد امرأة تقف بهدوء وسط ألوان دافئة ما يخلق جوًّا شاعريًا وغامضًا يتناغم مع العنوان، و»ليليت» في الميثولوجيا تُشير إلى شخصية أسطورية ارتبطت بالغموض والتحدي ومن هنا يشير الغلاف إلى الأبعاد الرمزية عن الذات والهوية أو الصراع الداخلي، فالغلاف الأول يبدأ من الداخل الحائر فيما ينقل التحول البصري في غلاف الطبعة الثانية القارئ إلى الخارج المزدحم لكنه يجنح إلى تنظيم الفوضى في السير بثبات ووضوح في وسعي لاستعادة الذات فتتحوّل البطلة من ظلّ متردد إلى كيان يمشي ويشتبك مع العالم ويختبر صداماته.
لقد انطلق غلاف الطبعة الأولى من بداية الصراع النفسي والعقلي والشعور بالتهميش والظلم والحرمان من الحقوق في المال والعلم والأسرة، وهي المعاناة المتعلقة بالهوية الجسدية الأنثوية، التي يشير إليها الشعر الطويل الدال على الأنثى، هذه الهوية التي تفقدها نصيبها في الإرث وفق العرف الاجتماعي الذي انحاز إليه إخوتها الذكور، وهو ما يتعارض مع المقرر لها شرعًا، هذا العرف الذي لا ينظر إلى مكانتها العلمية والإنسانية ومالها من اعتبارات وحقوق، لذا يظهر الشعر في الغلاف الأول مقصوصًا من أحد جوانبه ومتدليًا بالوثيقة من الجانب الآخر، مع عدم وجود الحجاب الذي خلعته بانطلاقها إلى الحياة خارج حدود الأسرة التي ظلمتها، في رغبة منها للتخلص من ذلك الرمز، وهي بهذا السلوك تفقد هويتها الأنثوية، وهويتها المكانية، وجميع انتماءاتها المحتملة لإعادتها إلى دائرة المكان، لكن هذه الرموز تعود في غلاف الطبعة الثانية بوصفها جزءًا من تمثلات الانتماء والجذور الممتدة التي تعود إليها، ومنها ينطلق الغلاف الذي ينسجم مع مرحلة انتهاء الصراع واستعادة بعض التوازن النفسي.
فغلاف الطبعتين يتناولان مرحلتين عمريتين مختلفتين تذهب إحداهما إلى الشباب والأخرى إلى المرحلة الأخيرة من حياة جواهر؛ إذ يصف غلاف الطبعة الأولى شخصية (جواهر) فيما يصف غلاف الطبعة الثانية شخصية (السيدة د. جي جي)؛ وبالتالي فإن الغلافين يتسقان مع العمل الروائي بدءًا وانتهاء؛ فهما تكثيف لرحلة الذات (ذهابًا وعودة - بين جواهر وجي جي) في علاقة تبادلية تحرض على التنقيب وإعادة القراءة بالنظر إلى الغلاف مرة أخرى بوصفه عملًا له استقلاليته الدلالية التي لا تتوقف.
ذلك أن للغلاف دوره الفاعل في تشكيل دلالات النص الروائي، فهو ليس مجرد مكون جمالي أو تسويقي، فمن خلال تتبع التغييرات التي طرأت عليه بين الطبعتين يتبين أن الغلاف قادر على إعادة توجيه قراءة العمل وإثراء تأويله مما يبرز الحاجة إلى وعي نقدي أعمق بالعتبات النصية وتأثيرها على تجربة التلقي، فالغلاف يشكل مدخلًا مهمًا لفهم تطور أحداث الرواية الداخلية ومدى تفاعلها مع بنى النص الروائي، ويعزز التفاعل مع القارئ، كما أن تغير الغلاف بين الطبعتين يشير إلى أن التلقي الأدبي يتأثر بالسياقات الخارجية فيما يتعلق بالعتبات الفنية البصرية واللغوية أو الأخرى المتعلقة بالتغيرات الزمنية والثقافية، مما يعزز أهمية البحث في أثر هذه العناصر المتغيرة نظرًا لتأثيرها على إدراك النص الروائي.
** **
د.دلال بنت بندر المالكي - أديبة وأكاديمية