د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ذكر سيبويه (180هـ) أن المشتق المفرد وما أشبهه يأتي بعده اسم مرفوع كما يأتي بعد الفعل، نحو: أخارجٌ قومُك، فهو مثل: خرجَ قومك، وتقول: أخارج أنت كما تقول: خرجتَ (1).
يفهم من قول سيبويه أن الوصف رفع الاسم رفع الفاعل، ومع ذلك لم يصنف البصريون رافع الفاعل في الأفعال؛ لأن بنيته الصرفية بنية الأسماء، وكان يمكنهم ذلك لو أنهم نظروا للوظيفة النحوية بمعزل عن البنية الصرفية، وهم تكلفوا عدّه مبتدأً على الرغم من أنه هو الجزء المتم الفائدة أي الخبر من حيث المعنى، ولكن الذي منعهم من عدّه خبرًا كونه مفردًا وما بعده قد يثنى وقد يجمع؛ فتتخلف المطابقة التي هي شرط للخبر، آثر النحويون رعاية اللفظ وإن عاند المعنى، وأطبقوا على أنه مبتدأ رفع فاعلًا وسدّ هذا الفاعل مسدّ الخبر، وكان إجماعهم على الفاعل الظاهر، أما المضمر فقد اختلفوا فيه إلى مذاهب:
الأول: عدّ الوصف مبتدأً وما بعده فاعلًا ظاهرًا كان أو مضمرًا، وهذا ظاهر قول سيبويه في (هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بعمل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرتَ بعده الأسماء أو أضمرتَها). وهكذا أعرب النحاس (338ه) قوله تعالى (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [46- مريم] «قالَ أَراغِبٌ رفع بالابتداء، و«أنت» فاعل سدّ مسدّ الخبر، كما تقول: أقائم أنت؟ وحسن الابتداء بالنكرة لما تقدمها» (2) . ووافقه مكي (437ه) (3) ، والعكبري (616) (4) ، والمنتجب الهمذاني (643) (5) ، وغيرهم. ومن المحدثين من ذهب إلى تعيّن ذلك، قال محمد عبد الخالق عضيمة «يتعيّن في نحو قوله (أراغب أنت عن آلهتي) أن يكون الوصف مبتدأ والمرفوع فاعلًا، حتى لا يفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي» (6) .
الثاني: عدّ الوصف خبرًا مقدمًا والضمير بعده مبتدأً، ونسب هذا إلى الكوفيين (7) ، ومال إليه الزمخشري (8) ، وجزم به السهيلي (581) قال «فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ الْمُضَمّرَاتِ نَحْوُ: أَخَارِجٌ أَنْتَ، وَأَقَائِمٌ هُوَ؟ لَمْ يَصِحّ فِيهِ إلّا الِابْتِدَاءُ، لِأَنّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ مُضْمَرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا لَا تَقُولُ: قَامَ أَنَا، وَلَا ذَهَبَ أنت، وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ: أَذَاهِبٌ أَنْتَ عَلَى حَدّ الْفَاعِلِ وَلَكِنْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ» (9) . وعلى هذا ابن الأثير (637) (10) ، وذهب ابن الحاجب (646) إلى أنه مجمع عليه قال «قوله في المقدمة في المبتدأ والخبر: (أو الصفة الواقعة بعد حرف النفي، وألف الاستفهام، رافعة لظاهر). احتراز من مثل قولهم: أقائم هو؟. فإنه لم يختلف في أن: أقائم؟ خبر مبتدأ مقدم، ولذلك وجب في التثنية: أقائمان هما؟ وفي الجمع: أقائمون هم؟ ولا يجوز: أقائم هما؟ ولا: أقائم هم؟ وبذلك جاء قوله عليه السلام: (أوَمخرجيّ هم)، بتشديد الياء على ما ذكرناه. ولو كان على غير ذلك لكان أو مخرجي هم، بتخفيف الياء لأنه مفرد» (11).
الثالث: إن كان الوصف وفاعله مفردين جاز عدّ الوصف مبتدأ أو خبرًا مقدمًا وعلى هذا ابن مالك (672ه) ومن تابعه، قال في الخلاصة (12) :
وَأَوَّلٌ مُبْتَدَأٌ وَالثّاني ... فاعِلٌ اغْنى في أَسار ٍ ذانِ
وبين هذا في قوله:
وَالثّانِ مُبْتَدًا وَذا الْوَصْفُ خَبَرْ ... إِنْ في سِوى الإفْرادِ طِبْقًا اسْتَقَرّ
وقال «ومنه في أحد الوجهين: (أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم) (13).
قال المرادي (749هـ) «والثالث: أن يتطابقا في الإفراد نحو: «أقائم زيد» فيجوز فيه الوجهان. فإن جعل الوصف مبتدأ وما بعده فاعل لم يكن فيه ضمير. وإن جعل خبرًا مقدمًا وما بعده مبتدأ كان فيه ضمير» (14).
قال ابن الناظم (686ه) «ومتى كان لمفرد، كما في قوله تعالى: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) [مريم / 46]، جاز أن يكون مبتدأ، وما بعده فاعل، وجاز أن يكون خبرًا مقدمًا، متحملا للضمير» (15).
وللخروج من هذا الخلاف كله أعود إلى ما قلته سابقًا في كتابي مساحة لغوية «وذلك أن الوصف (قادمٌ) هو مثل (يقدم) من حيث علاقة المسند والمسند إليه في الرتبة، فمن المعلوم أن الفعل يكون مجردًا من علامات المطابقة إذا كان فاعله اسمًا ظاهرًا، فيقال: «يقدم المسافران»؛ ولكن إذا تقدم الفاعل وجب أن يخلفه ما يدل عليه، فيقال «المسافران يقدمان»؛ لكي يعلم أن الفعل للفاعل المتقدم ابتداءً بقرينة ألف الاثنين التي تربط الفعل بالاسم المتقدم. وهذا شأن الوصف -عندي- أيضًا؛ إذ نقول: «المسافران قادمان»، فالخبر مثنى كالمبتدأ، وهذا ضروري لبيان أنه خبر عن المبتدأ نفسه؛ ولكن إذا تقدم الخبر زال اللبس وتعين كونه خبرًا للمبتدأ المؤخر عنه: (قادمان المسافران) ، ومن أجل ذلك يمكن أن نقول بجواز حذف علامة المطابقة، فيكون الخبر مفردًا كما كان الفعل مجردًا من علامات المطابقة: «أقادم المسافران؟». وهذا المذهب يغنينا عن القول بوجود نوعين للمبتدأ، وينهي الخلاف بين البصريين والكوفيين من حيث حكم تقدم الخبر؛ إذ الكوفيون لا يعدون (قادمٌ محمد) من قبيل الخبر المقدم على المبتدأ بل هو مبتدأ له فاعل سد مسد الخبر؛ لأنهم لا يشترطون شرط البصريين» (16).
**__**__**__**__**__**
(1) ينظر: الكتاب لسيبويه، 2/ 36.
(2) إعراب القرآن للنحاس، 3/ 13.
(3) مشكل إعراب القرآن لمكي، 2/ 456.
(4) التبيان في إعراب القرآن للعكبري، 2/ 876.
(5) الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد للمنتجب الهمذاني، 4/ 370.
(6) دراسات لأسلوب القرآن الكريم، 8/ 221.
(7) ينظر: تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد لابن هشام، ص: 183. ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة للزبيدي، ص100.
(8) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري، 3/ 20.
(9) الروض الأنف للسهيلي تحقيق: الوكيل، 2/ 406.
(10) «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير» (2/ 176. الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور لابن الأثير، ص110.
(11) أمالي ابن الحاجب، 2/ 495.
(12) ألفية ابن مالك، ص: 17.
(13) شرح التسهيل لابن مالك، 1/ 269.
(14) توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك للمرادي، 1/ 473.
(15) شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك، ص: 76.
(16) مساحة لغوية للشمسان، ص:61.