عبدالله العولقي
يُعرف عن إبداع نزار قباني أنه السهل الممتنع، ولعمري أنه كذلك، ولعلّنا في آخر المقال سنتناولُ قصيدةً بها دلالة جلية على ذلك، فكلماتها في غاية البساطة وفي متناول الجميع، لكنْ منْ ذا الذي يستطيع أنْ ينظمها عقوداً في العشق والحب وبمنتهى الروعة والجمال؟، لا شكّ أنه نزار وحده ولا أحدٌ غير نزار.
ولد نزار توفيق قباني في عام 1923م في حي مئذنة الشحم بدمشق الشام، من أسرة دمشقية عريقة، فجدُّه أبوخليل القباني رائد المسرح العربي الحديث، درس الحقوق في الجامعة السورية ليتخرّج منها عام 1945م وليعمل بعدها في السلك الدبلوماسي متنقلاً بين العواصم العربية والعالميّة حتى قدّم استقالته عام 1966م ليتفرّغ بعدها للأدب والشعر.
في بداية شبابه نشر ديوانه الأول قالت لي السمراء، فلفتت موهبته الفتيّة كبار النقاد والأدباء العرب، وبدأ التساؤل حينها عن هويّة الشاعر القادم إلى فضاء الثقافة العربية، هذه الإبداعية التي ستُضيء الجوانب المظلمة في حياة الأنثى وغريزتها في العشق، وسلوكيّاتها المتناقضة والمتآلفة مع الرجل، وحول هذه المدارات النفسيّة تأسست مدرسة فريدة في الشعر العربي تسمى مدرسة نزار قباني!.
وهنا يحضر التساؤل المهم، لماذا نال نزار قباني كل هذه الشهرة؟، لا شكّ أنّ تهافت المطربين والمطربات لغناء قصائده قدْ لعب دوراً كبيراً في هذه الشهرة الطاغية، لكنني لا أتحدث هنا عن ذلك، ولا أتحدّث أيضاً عن شعره السياسي أو إباحيّته في وصف الجسد الأنثوي، وإنما حديثي نقدياً عن الجانب النفسي الخطير في شعره، فكيف استطاع هذا الدمشقي العاشق أنْ يتغلغل إلى أعماق الأنثى ويغوص في أعماق تفكيرها، وبهذه الجرأة متخطياً كل الحواجز الثقافية؟، وكيف استطاعَ أنْ يصف المرأة بكلّ دخائلها وغرائزها وجنونيّاتها ويُلهب مشاعر الشباب والشابات في كافة أرجاء الوطن العربي؟
لقد شكّل نزار قباني من قصائده وأشعاره ظاهرة أدبية كبرى في محيط ثقافتنا، نتّفقُ أو نختلفُ حول محتوى أدبه لكننا لا نستطيع إنكار ظاهرته النزاريّة!.
يرى بعضُ النقاد أنّ وراء كل موهبة شعرية امرأة تُلهب جنان الشاعر، فمن هي تلك المرأة التي تقف خلف نزار؟، سنتحدث أولاً عن شقيقته الكبرى (وصال)، فقدْ تركتْ حكايتُها المؤلمة وقصة عشقها ونهايتها المسأوية جُرحاً عميقاً في قلب نزار المرهف إلى آخر يومٍ في حياته، يقول نزار حول هذه التجربة أنّ وصالاً قدْ انتحرتْ وأنْهتْ حياتها ومأساتها بعد أنْ رفضت أسرتها تزويجها من الشخص الذي أحبّها وأحبته، لقد رفضه والدُها لأنه أقلّ منهم في الدرجة الاجتماعية!، لقدْ شكّلت وصال أولى أوجاع نزار تجاه المرأة، وكان موتها حاضراً في أعمال نزار الشعرية، فهي الشقيقة الكبرى التي تعلّق بها نزار لكونها تمثل له الأم الثانية، فكان يتمثلها دائماً حينما يصفُ طغيان الأنثى وتمردها، فمن حكايتها المأساوية صاغ نزار دستوره في العشق وتمرّده على النظم الاجتماعية، وبسببها كانت ردة فعله عنيفة على مجتمعه وثقافته وسخطه عليهم، وبهذا فتح على نفسه هجوماً فكرياً عنيفاً شنه عليه المتدينون والمحافظون حيث ألّبوا عليه منصات الإعلام والدين والتعليم، فمُنعت دواوينه وحُرّمت أشعاره، ووصل ببعضهم الأمر إلى أنْ وسموه بالزندقة والانحراف الفكري، وهذا لا يهمّنا في حديثنا اليوم بقدر ما يهمنا مدرسته النفسية في أدب المرأة وقدرته الفنية الفذة على تصوير مشاعرها وسلوكها ودواخلها الذاتية والإنسانية بإبداعية متميزة.
وقبل وصالٍ هناك المرأة الأولى في حياة نزارٍ وأعني والدته فايزة آقبيق ذات الأصل التُركي، فقد كان نزار متعلقًا بها كثيرًا، ويُقال إنها ظلت ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره، وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره، لقد نشأ مرتبطاً بها ارتباطاً عميقاً حتى قالوا عنه إنه مُصاب نفسياً بمرض عقدة أوديب، لقدكتب نزار عنها قصائد كثيرة يدمج فيها بين حنينه لدمشق مهده الأول وحنينه لأمه، وقصائده عن أمّه في ديوانه الرسم بالكلمات خير دليلٍ على شغف الطفل بصورة الأم التي ألهمته كثيراً في إبداع نصوصه!!.
وغير أمه هناك زوجته الأولى التي أحبّها وأحبّته، لقد أنجب منها أبناؤه وبناته، لكنّ حكايتها مع نزار قباني تشبه قصة صوفيا مع زوجها تولستوي أديب روسيا العظيم، لقد قطّعت الغيرة قلبها وهي تبدأ يومها بعشرات الرسائل التي تملأ صندوق بريد العائلة، وكلها من النساء والصبايا وهنّ يغازلن شاعرهنّ الوسيم بلا خجلٍ أو وجلٍ، لمْ تستطع غريزتها الأنثوية وفطرتها الطبيعية أنْ تحتملَ كل هؤلاء النساء، فهي تريد نزاراً لها وحدها ولا أحدٌ سواها، لكنْ هيهات لها ما تتمنى، وبعد معاناةٍ طويلةٍ من النزاع الأسري انفصل الشاعر عنها بناءً على رغبتها!!.
إنّ كل هذه الأحداث النسائية كانت تصنع معاناةً إبداعيةً تتجسد في أعماق القصائد النزارية، فبعد عدة سنواتٍ من انفصاله عن زوجته الأولى، سافر نزار إلى بغداد العراق لإحياء محفل شعري، وأثناء إلقائه الشعر وقعتْ عيناه صدفةً على سيدةٍ حسناء خفق لها قلبه من أول نظرة، لمْ يحتمل وجدانه الصبر أو الانتظار، فما إنْ انتهت مراسم الحفل حتى نزل نزار إلى القاعة يبحث عن هذه السيدة بين الجمهور، يتأمل هنا وهناك حتى وجدها، وما إن ابتسمت له حتى اقترب منها وصارحها بنبضات قلبه المفاجئة تجاه عيونها الساحرة، ومباشرة وبدون تردد طلب يدها للزواج!، تفاجأت هذه السيدة العراقية من صدمة الموقف وجُرأة الشاعر الدمشقي، فلم تستجبْ أبداً لهذا الطلب السريع، وهنا بدأت الصدمة والحيرة والقلق عند شاعرنا الكبير، فماذا يفعلُ بدقات قلبه التي تؤرّقُ وجدانه؟، وماذا يصنع بصورتها التي لا تغادر خياله؟، لقد طاردها حيثما حلّت أو ارتحلت، في بغداد أو القاهرة أو بيروت، يكتب لها الأشعار والقصائد حتى رضخت أخيراً أمام هذا الحب الكبير، لقد نجح نزارٌ أنْ يروّض جموح فرسه وكبريائها، وارتضت حبيبته في النهاية أنْ تدخل قفصه الشاعري بكل استسلامٍ وخنوعٍ، لقد ظلّ يطاردها سبعَ سنواتٍ عجافٍ كاملةٍ، لمْ تكنْ هذه السيدة إلا بلقيس الراوي، الفاتنة الجميلة والدبلوماسية العراقية التي عاش معها نزار أجمل سنوات عمره، لقد ظلت شجرته التي تقيه وهج شموس العاشقات الفاتنات لما يقارب 12عاماً، ولكنّ للقدر المحتوم شأنٌ آخر!، فقدْ لقيتْ حتفها المأساوي وماتت في حادثة انفجار السفارة العراقية في بيروت عام 1981م ، فتسبّبت نهايتها بجرحٍ عميقٍ في قلب نزار ظل ينزفه في أشعاره حتى وفاته عام 1998م.
بعد وفاة بلقيس لمْ يطب المقام لنزارٍ في المشرق، فحمل حقائبه متغرباً إلى لندن، حيث ظلّ بها حتى وفاته بعد أنْ أوصى بأنْ يُدفن في مهده الأول دمشق، وفي لندن كتب روائع قصائده التي اتسمت بنضوجه الفني بعد أنْ ابتعد عن سفاسف المعاني الغزلية ورذائل الكلمات السخيفة التي امتلأت بها بعض دواوينه السابقة، وهناك بدأت نظرته للمرأة تعتريها الفلسفة والفن، يقول نزار قباني: أعتقد أنّ تجربة الحب في الشعر العربي كانت تجربة ثقافية ولم تكن تجربة حياتية، فامرأة أحمد شوقي لا تختلف كثيراً عن امرأة البحتري أو ابن زيدون!، أمّا النقاد فيرون كلامه هذا بعيداً عن الصواب، فالمرأة في شعر نزار تتخذ صوراً متباينة ومتناقضة، تقول الباحثة رفيقة البحوري:
إنّ الباحث يصطدم يصورة المرأة عند نزار باستحالة الوصول إلى صورة واحدة واضحة لمعالم المرأة!، ويقول جهاد الفاضل:
إنّ واقع صورة المرأة في شعر نزارٍ لهي صورة متناقضة، فقد يصورها بالمتذللة للرجل وأحياناً يصورها بالمتغطرسة عليه، هناك فوضى في رؤية هذه الصورة!.
وإذا حلّلنا قصائد نزار قباني حسب تراتبيتها الزمنية لوجدنا بداياته في ديوان (قالت لي السمراء) تختلف عن سنوات نضوج تجربته الشعرية، ففي ديوانه الأول نجد نظرته متجهة إلى مفاتن الجسد، وأحياناً إلى الإباحية لكن في مرحلة نضوج تجربته الشعرية سنجد صور المرأة تتعدد أشكالها بحسب مزاجه الشعري، ومن هذه الصور نجد نزاراً يبدع في تحليل دواخل الأنثى، ويُجيدُ في اقتحام عوالمها الداخلية، ويُحسنُ إضاءة الجوانب الإنسانية فيها كما سنجد ذلك في قصيدته البديعة (ماذا أقول له لو جاء يسألني) والتي جاءت غارقة في أسلوب الاستفهام، وهذه من أدوات المدرسة النزاريّة في إيصال رسالته إلى المتلقي!، فهو الأقدرُ بين الشعراء العرب في الحديث على لسان الأنثى، وتصوير اندفاعاتها ورسم تهورها وتغيير مواقفها، وهنا يظهر التساؤل الغريب:
ماذا أقول له لوجاء يسألني
إنْ كنتُ أكرَهُه أوْ كنت أهواهُ
في هذه القصيدة ما يُشبه القصة القصيرة، البطلة هنا الأنثى المرهقة بين إحساسين متناقضين: إحساس يبدو لها من (الخارج) وهو عشقها للرجل الذي أحبته ، وإحساسٌ ينبض لها من (الداخل) وهو كبرياؤها الفطري، وبين هذا وذلك تتنازعها نفسها، فيضطرب سلوكها الأُنثوي داخل هذه المسرحية النفسية التي أجاد الشاعر نزار قباني في تصوير تناقضاتها ضمن قصيدته الشهيرة، وبإبداعية بديعة في منتهى الجمال الفني.
لقد صوّر نزار المرأة بالكائن الذي يُظهر عكس ما يُبطن، يدّعي الكراهية وهو غارقٌ في أعماق الحب، لقد أجاد الشاعر في رسم تحولات المرأة السلوكية وتبدل مواقفها، وأعني هنا الاستسلام أمام الذكورة الجامحة:
ماذا أقول إذا راحتْ أصابعُه
تُلملمُ الليلَ عنْ شعري وترعاهُ
بعدها يُظهرُ نزارُ تقنيةً شعريةً بديعةً بالتلاعب حول موضوع التناقضية في سلوك المرأة، وهذه التقنية تشبه رسم القمة والقاع، فالبيت الثاني يُعطي المتلقّي إحساس استسلام المرأة للرجل (قاع) لتعود في البيت الثالث إلى كبريائها (قمة):
غداً إذا جاء سأُعطيه رسائله
ونُطعم النار أحلى ما كتبناه
هذا الكبرياء يستدعي المزيد من أسلوب الاستفهام الذي تضج به القصيدة بشكلٍ عام، فستمر (القمة) في إثبات كبرياء المرأة:
حبيبتي! وهل أنا حقا حبيبته؟
وهلْ أُصدّقُ بعد الهجر دعواهُ؟
أمَا انتهت من سنينٍ قصّتي معه؟
ألمْ تمتْ كخيوط الشمس ذكراهُ؟
أما كسرنا كؤوس الحبّ من زمنٍ
فكيف نبكي على كأسٍ كسرناهُ؟
ليستمر بعدها نزار في مسلسل التناقضية في سلوك المرأة وعلاقتها مع الرجل، ليعود منطقياً إلى (القاع) عندما تتراجع الأنثى عن حدّتها وتخفف من هجومها:
ربّاهُ.. أشياؤهُ الصغرى تُعذّبني
فكيف أنجو من الأشياء رباهُ؟
هنا جريدته في الركن مهملةٌ
هنا كتابٌ معاً .. كنا قرأناهُ
على المقاعد بعضٌ من سجائره
وفي الزوايا .. بقايا من بقاياهُ..
ما لي أُحدّقُ في المرآة .. أسألها
بأيِّ ثوبٍ من الأثواب ألقاهُ
لتصل بعد ذلك إلى منتهى (القاع) الاستسلام للرجل والاعتراف القسري بخفقات القلب التي تتحرك في حبه:
أأدعي أنني أصبحت أكرهه؟
وكيف أكره من في الجفن سُكْناه؟
وكيف أهربُ منه؟ إنه قدري
هل يملك النهر تغييراً لمجراه؟
أحبّه.. لست أدري ما أُحبُّ به
حتى خطاياه ما عادت خطاياه
وهذا الاستسلام في سلوك الأنثى يستدعي المنطق والإقناع، وتبرير الموقف الشخصي:
الحبُّ في الأرض، بعضٌ منْ تخليّنا
لوْ لمْ نجدْه عليها .. لاخترعناهُ
وفي الختام .. لقد أسس نزار قباني مدرسة شعرية خاصة به تسمى النزارية، وهي على زاويتين: الحب والسياسة، وتحتاج هذه المدرسة إلى كتب متعددة لنقدها وتحليلها لكونها تجربة ثرية لا يمكنْ اختزالها في مقال، ولأجل ثرائها الفني في أدبنا العربي كانت هذه المقالة مجرّد إضاءة لهذه المدرسة البديعة.