لكل فنٍّ إنسانيَّ وسيلتُه، ولكلّ فنِّ إنسانيّ غايتُه، ومابين الوسيلةِ والغايةِ تتعدّدُ مواهبُ أهلِ الفنّ، وتختلفُ أذواقُهم. ولقد رأيتُ من الفنونِ ما يعجز القلمُ عن وصفِه، ويكلّ الخاطر عن اكتناهِ دقائق حُسنِه، حتّى لقد تُوقنُ بصدقِ من زعمَ أنّ الجمالَ يُدركُ بالخاطرِ، ولا يُوصفُ بمحضِ النواظِر.
والأدبُ فنٌّ عرفه الإنسانُ منذ أزمانٍ سحيقةٍ، وتكلّمتْ به ألسنةُ الأممِ على اختلافِها، وتعاورتْه الأذواقُ على تبايُنِها، فكان لكلِّ معتنٍ به حظٌّ على قدرِ ما أوتيَ من الموهبةِ، وعلى قدرِ ما مُكِّنَ فيه من الوسائلِ الرافدةِ لها.
لقد ظلتْ صناعةُ الأدبِ في عصورِه الطويلةِ مقصورةَ على فئةِ من المجتمعِ هم أصحابُ الموهبة المعزَّزةِ بالمعرفةِ. وهم أُلُو الملكاتِ المصقولةِ صَقْلَ المعدِنُ النفيسِ. فلا يَتورّدُ هذهِ الصنعةَ من ليسِ له باعٌ فيها، ولا يِستشرِفُها من لا يِملك حسًّا أدبيّا وطَبْعا نقيًّا. فلا ينازعُ أهلَ الصنعة غيرُهم إلا نَفتْه كما تَنفي النارُ خبثَ الحديدِ. فإذا ما وصَلْتَ إلى هذا العصرِ الذي اقتحمَ فيه سياجَ الأدبِ مراكبُ بلا أعنّه، وفوارسُ بلا أسنّة، رأيتِ ما لا أدبَ فيه متلبّسًا ثوبَ الأدبَ، وما لاروحَ فيه كأنّه ما ترنّمتْ به العَرب. واستحسَنَه قومٌ يظنّون كلَّ ما تنطقُ به الألسنةُ أدبًا، وكلّ ما بَرَقَ لونُه ذهبًا.
وزعَمَ من زعمَ أنَّ الأدبَ كَسرَ الزمانُ احتكارَه، واستنقذَهُ من أيْدي من سمَّوهم النُخبةَ فصارَ طوعًا للعامّةِ، قريبًا من الدهماءِ، لا يَستعصِي على من طلبَه فَهو قيدُ أنامِلهم، عَفوُ خَواطرِهم.
والحقُّ أنّ الأدبَ لم يكنْ محتكَرًا ليُستنقَذ، ولم يكنْ مقيّدًا في عقاله فيُطلق. بل الأدبُ حرٌّ طليقٌ، سيّد مُسَوَّدٌ. الأدبُ كما هو مالِكُ نفسِه، وهو صاحبُ أمرِه، ولكنّه أبيٌّ ذو مُحاماةِ، وغنيٌ ذو مَلاءة، لا يستجيبُ لغير أربابِه.
الأدبُ ما زالَ هو الأدبَ في عرشِه الحميِّ، وعِزّه الأبيِّ، لا يَنساق لكلِّ من شاء استياقَه ، ولا ينقادُ لكلّ من ظنَّ أنّ بيدِه قيادَه. والذين وَهِموا أنّهَم استنزلوه من عَليائه، واستهجنُوه عن كِبريائه، لم يَعلموا أنَّهم يحومونَ حولَ حماهُ فلا يَصلون، ويجولونَ على أبوابَه فلا يَلِجون. وقد عاندَتهم طِباعُهم، وعَجزتْ عنه أطماعُهم.
لقد ظنَّ كثيرٌ من مُتطلّعيهِ أنّ الصناعةَ فيه كالتجارةِ به، وأنَّ الإبداعَ في فنونِه كالوِراقةِ في استنساخِه، وأنّ من برَّحَ به الجِدُّ في إيلافِ نسجِه، وتلحيبِ طريقِه، كمبتغيِه بلا مشقّة، ومُدّعيه بلا نَسب. وألّا فرقَ بين المحبِّ لفنونِه وبين المبدعِ في صناعتِه. وأغفلوا حقيقةَ أنّ مبدعَ الأدبِ ليس محتِكرٍا له، وأنّ الأدبَ نفسَه هو الذي تعلّقَ بأولئكَ الأفذاذِ فأبى أنْ يُذعن لأحدٍ، وإنّما هو إلفُ من كانوا له أهلًا، ونجيُّ من أحسنَ لَه قولا. فإنْ استحسَنه غيرُهم، واعتنتْ به رغباتُهم، وناسب حاجةً منهم في النفوسِ، فهم مُتلقّونَ له لا أكثرَ.
وإنّ ممّا يَلفتُ الناظرَ المتأمّلَ اليومَ تَدافعَ العامّةِ على شأنِ الخاصّة، وادّعاءَ الغريبِ أنّه أهلٌ قريب. فإنْ بارتِ المقدرةُ ادّعى الأحقيّةَ فيما يُريد قولَه، وذلك وإنْ كان حقّا له أن يَقولَ ما يراهُ فإنّه لا حقَّ له في وصفِه بالأدبِ، فإنّ الأدبَ له حُرمةُ، وله قوانينُ وأنظمةٌ لم تصنعْها إراداتُ المبدِعين، ولا ابتدعتْها مَلَكاتُهم، إنّما هُم صُناّع للإبداعِ على ما يقتضيه الأدبُ من قوانينِ الفنّ، فمنْ أخلَّ بشيء من تلك القوانينِ فلا حظَّ له في الإبداعِ، ولا مزيّةَ لقوله ترفعه عن أيِّ كلام مُشاع.
الأدبُ له قوانينُه كما أنّ للعلمِ قوانينَه، والتفريقُّ بينَ الأدبِ والعلمِ في الموضوعِ، والطريقةِ، والأسلوبِ، والأفكارِ، وبين رؤيَةِ الأديبِ للأشياءِ ممتزجةَ بمشاعرِهِ، ورؤيَةِ العالِمِ لتلك لأشياءِ نفسِها بقوانِينَ مختلفةِ، وحقائقَ لا بخصوصِيَّةِ رؤيَتِه. كلُّ هذا لا يَعني أنَّ الأدبَ خلوٌ من القوانينَ المعرفيّةِ، وأنّه نُهبَةَ الألسنةِ تَصولُ فيه بلا وازعٍ، وتجولُ بلا منازِع. وهذا الموضعُ الغامضُ، أو الملتبسُ في أذهانِ بعضِهم جعلَهم يرون وجهَ الاختلافِ بين العلمِ وبين الأدبِ أنّ العلمَ له قوانينُ ونظريّاتٌ تُدرسُ، ومعارفُ تُكتسبُ. وأمّا الأدبُ فلا يُتعلّمُ ولا قوانينَ له. وقد أُتُوا من حَيثُ ظنّوا أنّهم تَحفّظُوا، فإذا كانَ في الأدبِ قَدْرٌ لا يُتعلّم كما يُتعلّمُ الطبُّ، والكيماءُ، والقانونُ، وغيرُها؛ فإنّه لا يُؤتى من أبوابَ مُشرَعةٍ، ولا يُتوصّل إليه بمحْضِ الهوى. فَلَه أصلٌ هو فيه كالروحِ في الجسَد، وهو الملكَةُ الفطريّةُ التي يندُرُ في الناسِ وجودُها، وهذا هو القَدْرُ المستقلُّ ممّا لا يُتعلَّمُ ولا يُكتسَبُ، لكنّه لا يُغارُ عليه فيُنتَهبُ. فأمَّا سائرُ مقوّماتِ الأدبِ فإنّها تُكتسَبُ وتُتعلَّمُ، ولا تُوجَد بشيءٍ سواهُما.
الأدبُ وسيلتُه الأولى اللغةَ، ولا يكونُ الأديبُ أديبًا إنْ لم تكنْ لغتُه مُستقيمةَ وَفْقِ معاييرِ علومِ اللغةِ ونِظامِها الذهنيِّ. واللغةُ تُكتسبُ بالتعلّم والتثقُّف، وبالمرانِ والمزاولةِ. ثمّ إنّ اللغةِ في صورتِها الإدراكيّةِ الأولى لا تَنهضُ بعبءِ الأدبِ، ولا يَستقيمُ لصَاحِبِها إنْ لم يفطَنْ لأسرارِها، ويستبطِنْ خفايا مُكوّنها اللفظيِّ، ومضمونِه المعرفيّ. فلغةُ الأدبِ ليستْ كسائرِ الكلامِ، وإنْ صِيغتْ بضابطِه النحويّ، وأَخذتْ صورتَه الظاهرة.
إنّ اللغةُ الأدبيّة تكادُ تكونُ شيئًا آخرَ غيرَ سائرِ الكلامِ، لغةٌ رفيعةُ الأسلوبِ، لفظُها رَشِيقٌ، ومبناها وَثيْقٌ، وجرْسُها مرهَفٌ، وتراكيبُها متلاحِمة الأجزاءِ، متّصلةُ الأطرافِ والأوساطِ، لها سبْكٌ متلائمُ اللُحمةِ -والتلاؤمُ غيرُ التلاحُمِ- مترابطُ السِّنْخِ والأسْداءِ. طريُّ الحواشِي. الأدبُ قولٌ بديعُ تَتُوقُ إليهِ الطباعُ المستَقيمةُ، وتَستعذبُه الأسماعُ، وتستطيبُه الأذواقُ.
لغةُ الأدبِ جماليّة الظاهرِ لا تُخفي قُبحًا في الداخلِ، ولا تقومُ على وهنٍ. مستوفيةٌ لشروطِ الصحّةِ، وشروطِ الجمالِ، فإنَّ اللغةَ كالجَسدِ البشريِّ لا يتمَّ جمالُه حتّى تستقيمَ صحّتُه، ولا تكونُ صحّتُه بتزيينِ ظاهرهِ واختلالِ ماتحتَ الظاهرِ. وإنّ الحسنَ المزيّف، والبهرجَ المتكلّفَ لا يلبثُ أن يكشفَ عن خللٍ، وينمَّ عن مخبوءٍ ينافي الشرطَ الجماليَّ للأدبَ. فالشرط الجماليّ لبناءِ اللغةِ وسَبْكِها، لهُ شَرطٌ صِحيٌّ يَسبقُه، وعليه يُؤسّس.
ثمّ إنَّ الأدبَ له بُعدٌ جماليٌّ آخرُ، عليهِ المعوِّلُ في الحُكمِ على صحّةِ العملِ وهو جمالُ الدلالاتِ، وحُسنُ المعاني، وهذا المستوى الجماليّ مبنيٌّ على صحّةِ توظيفِ اللغةِ، واستفيائِها لشرطِها الجماليَّ. وهو شيءٌ آخرُ مختلفٌ عن صحّةِ اللغةِ في بنائها الوضعيِّ، إذْ إنّ بناءَها الوضعيَّ يَشتركُ فيه أهلُ تلك اللغةِ بما يُعرفُ بالتواضُعِ ومنه أُلِّفتِ المعاييرُ، وقُعّدَ نظامُ القول. أمّا صِحَّةُ التوظيفِ الاستعماليُّ فهي من شأنِ الأديبِ صاحِبِ الصنعَةِ الأدبيّة، المتقنِ لفنِّه، الذي يتصرّفُ في اللغةِ بملكتِه الفذّة، ومقدرتِه الإبداعيّة.
إنّ مأساةَ الأدبِ تصدُرُ من الخلطِ بينَ شرطِ اللغةِ في مستواها الوضعيّ، وشرط الأدبِ الذي يَقتضِيهِ في المُستوى الوظِيفيِّ للُّغةِ، إذ إنَّ صِحّةَ الوظيفةِ اللغويّة تقوم على صحَّة بنيتها الوضعيّةِ، ولن يستطيعَ الجسدُ أن يَقومَ بوَظائفِه العُضويَّةِ وهو مُعتلُّ في صحّةِ الأعضاءِ، وبِنيتِها الأصليّةِ. إنّ الجمالَ الدلاليّ هو القدرةُ الخاصّةُ التي يُسبِغُها الأديبُ على اللغة المستوفيةِ لجمالها الوضعيّ، المبنيّ على صحّتها أولا.
وإذا انصرفنا قليلًا عن لغةُ الأدبِ، ونظرنا إلى العاطِفةِ، التي تُعدُّ عُنصرًا مُؤثِرًا في الأدبِ، والخيالِ الذي عَليه المعوّلُ في الصورةِ الأدبيّة، رأيتَ الأوهامَ تلوحُ عندَ من ظنَّ العاطفةَ بلا وعيٍ، والخيالَ بلا تعقُّل، والمشاعِرَ بغيرِ تفكيرٍ. فحجَبَ بوهمِه عن الأدبِ ما هو فيه بسبب. فوهم أولئكَ أنّ الأدبَ لا يحتاجُ إلى الحُجّةِ، وإلى يَلتفِتُ إلى البراهينِ، وهي خُدعَةٌ تَتَسَلَّل إلى الطباعِ، وتدخلُ في التصوُّرِ، ويتفرّعُ عنه حُكمٌ خاطِئ. فلا مشاحَّةَ عندَ أربابِ النقدِ أنّه لا يَخلُو الأدبُ عن شيءٍ من الحُجّةِ والاستدلالِ، والبرهنةِ العقليّة، خاصّة حينَ يكونُ الأدبُ يقصِدُ إلى الإقناعُ معَ الإمتاعَ، فإنّ العقلَ المستقيمَ، والطبعَ السليمَ يَروقُهما ورودُ الجمالَ على الخاطرِ بقناعةِ، لا بظنّ موهِم، ألا ترى كيفَ جعلَ النُّقادُ الكنايةَ أسمى من التصريحِ وأبلغَ إذ كانتِ الكنايةُ تسوق الأمرَ بدليله، وتُسكِنُ خاطرَك بما يُثلجُه، فتأتيكَ الصورةُ من صُنعِ الخيالِ مؤيّدة بدليلِ العقلِ، وإن كانَ الدليلُ ادعائيّا فهو أجملُ كما في المبالغاتِ التي استرَقَ بها المتنبّي إعجابَنا، وأقرّتْ بها لأبي تمامٍ أقضيةِ النُّقاد.
** **
- أ.د. ظافر العمريّ