امتدت علاقة الشاعر العربي بالإبل امتدادًا تاريخيًا، تعلّق بها وتعلّقت به، ومضت رحلاته بها ممتدة إلى أعماق الفيافي ورحاب الصحراء، وما زلت حتى يومنا هذا صديقة وفية تحمل صاحبها وتألف وجوده وتأنس به، وفي الشعر العباسي تظهر ملامح جديدة في علاقة الشاعر العربي بالإبل، وهذه الملامح ترتبط برحلة الشاعر العربي إلى مكة في موسم الحج، حيث تتعانق المشاعر بالمشاعر وتطوف القلوب في الدروب، وتنساب الأرواح في عالم الأرواح، ويجد القارئ في شعر أبي تمام وتلميذه البحتري عدداً من الثمات والمعاني والدلالات متشابهة في وصف الرحلة إلى الحج، حيث اللهفة والشوق يحدوانهما، والرحلة والرحيل ينشدانهما، والإبل في ذلك هي الصاحب الذي لا يمل والحبيب الذي لا يكل.
وتظهر قدرة أبي تمام في وصف الناقة أثناء حجته التي حجّها متوحداً بناقته معانقاً لها في كل شيء، فجاءت القصيدة مفعمة بمشاعر متباينة، مشاعر إنسانية متواشجة بينه وبين الناقة، وهي من أجمل ما قال في وصف حركة الناقة وسيرها وقطعها الفيافي وهي متوجهة إلى الله، ويسعى أبو تمام في هذه الأبيات إلى أن يبعث الحركة في الناقة لتكون إنسانًا يرافقه في طريقه، وأن يظهر مشاعرها وأحاسيسها وهي ترنو إليه بعد أن جهدها الطريق وأتعبها المسير وأرهقها السّرى، كما أنّه يضيف إليها صفات إنسانية فهي تلتفت إليه وتشتكي مما ألمّ بها، وبذلك تحولت الناقة إلى صورة إنسانية رمزية، وقد أدرك أبو تمام الطبيعة الحيوية لهذه الناقة فحولها إلى إنسان يحاوره معتمد على الاستعارة أكثر من التشبيه وهو يصرّح بأنه (يصف) ناقته مراوحاً بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم وكأنه يؤكد على إيجاد رفيق سفر في رحلته هذه، يقول في ذلك:
لعلّك ذاكرَ الطلل القديمِ
وموفٍ بالعهود على الرسومِ
وواصفَ ناقة تذر المهاري
موكلّةً بوخدٍ أو رسيمِ
وقد أممتُ بيت الله نضوا
على عيرانة حرف سعومِ
أتيتُ القادسية وهي ترنو
إليّ بعين شيطانٍ رجيم
فما بلغت بنا عسفان حتّى
رنت بلحاظ لقمان الحكيم
وبدّلها السُّرى بالجهل حلما
وقدّ أديمها قد الأديمِ
أذاب سنامها قطع الفيافي
ومزّق جلدها نضج العصيمِ
طواها طيُّها الموماة وخداً
إلى أجبال مكة والحطيمِ
رمت خطواتها ببني خطايا
مواشكةً إلى رب كريمِ
بكلّ بعيدة الأرجاء تيهٍ
كأن أوراها وهج الجحيمِ
أقول لها وقد أوحت بعينٍ
إليّ تشكّي الدنف السقيمِ
بكُورك أشعر الثقلين طُرًا
وأوفى الناس في حسب صميمِ
فمالك تشتكين وأنتِ تحتي
وتحت محمدٍ بدر النجوم
متى أظمتك هاجرة فشيمي
أنامله تروّكِ بالنسيمِ
وإن غشيتك ظلماءٌ تجلّى
بغرّته دجى الليل البهيم
فمرّت مثلما يمشي شهيدٌ
سويًّا في صراط مستقيمِ
وتظهر في شعر البحتري رحلة أخرى مشابهة لرحلة أبي تمام في علاقته بالمشاعر المقدسة، حيث ارتباط حركة الإبل بالمكان في شعر البحتري يتجلى في مواضع كثيرة من شعره، فهو يرصد الأماكن التي تمر بها في هذه الرحلة ويصف رمي الجمرة وحلق الشعر أو تقصيره ثم التوجه نحو المدينة المنورة لتحيي قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتمسح على منبره في الروضة الشريفة، يقول في وصف مشاعر مكة ومنى والجمرات والمدينة المنورة:
لله ما حدتِ الحُداة، وما سرت
تخدي به قلص المهارى الضمّرِ
متقلقلات بالسماحة والندى
يطلبن خيْف (منى) وحِنو (المشعر)
حتى رمين إلى (الجمار) ضُحيّةً
والركب بين محلّق ومقصّرِ
وثنين نحو قصور (يثرب) آخذاً
منهن سير مُغلّسٍ ومهجّر
يجشمنَ من بُعدٍ أداء تحيّةٍ
للقبر - ثمّ - ومسحةٍ للمنبرِ
ولكن القارئ لا يجد في أبيات البحتري ما يجده في أبيات أبي تمام، وعلى الرغم من ذلك فلقد تجلّت في هذه الأبيات للشاعرين علاقة حميمية وثيقة مع الإبل، وكانت الإبل صديقة الرحلة على الرغم مما شعرت به من ألم وشدة أثناء السير، ولكنها بلغت غايتها التي طلبتها، وإن كان أبو تمام أبلغَ من البحتري وأجمل وصفاً، حيث وصف الناقة وبيّن مشاعرها وكشف أحاسيسها، بينما كان البحتري متجهاً في وصفه إلى المكان غارقاً في تفاصيله وتظل الناقة متوارية عنده في حضور المكان.
** **
- أحمد اللهيب