عبدالمحسن بن علي المطلق
ولربما هي وخزٌ الماضي، وأعني به ذاك البعيد، فقبل فترة مررت بحيّ حرّك فيني شيء لذلكم، و كان محاذيا لشارع الفرزدق يوم كان قائما سوقه، وعهده الرطيب، حيث الشواهد شاخصة للذهن لم تغب بعدها .. فحضرني قول «فدوى طوقان» :
سـل الدرب كم جئت غبّ النوى
أجرّ الخُـطا بالغروب الحزين
فكان نفيس مما حوله العامر بالحنايا مقاربا ليسحبني على مُكث خيط الذكريات لقِصر (كان) يقطن -يومها- أحد ردهات ذاك الحي، و كان لأحد ثلّـة من خاصّة أبي رحمهم الله يومها لم أخلع رداء الصبا بعد، فمضيت حين اختلى أبي وصاحبه لأمور لا أعيها، مسلّما لرغباتي المقود فمضت بي بين أفياء حديقة غناء تُحيط بغالب القصر، وكانت ليفاعتي أراها وجلّ تعجّـبي.. مشدوها بما هو جديدٌ علي، خاصة وأن غصونها يتدلّى من أحدها رمان، وأخرى تفاح -على ما أذكر- ، لأن صاحبها كان يُـعنى بسقياها ومرعاها، ولعل هذا ما جعلها تتأنّـق مشاعري في جوّها، مع ما يبعث جداول مائها.. وأنا الغرّ الذي بعده لا يعرف التفاضل و لا لديه من حيّز للتمايز، لكني أذكر أنها علقتني ، و دليلي على مقالتي أني إلى الآن لم أنسَ بل و كان مما زاد وثوقها بي ..هذا الذي أحسبه أدعى أن يعلّم بي ما التقيت بها من بعض صبايا ( هنّ من قرابة صاحب القصر) ، فاستحضرت- الآن- مقالة «ثلاثة يجلبن السعادة، الخضرة و الماء و الوجه الحسن.. »، وقد توفّرت بهن مثلما توافر المكان و خرير ماء صوته رنّ بلا رتابة في أُذنيّ كل الثلاثة.
المهم كنّا يتغنين وهنّ يجلون عن أنفسهن السآمة، بأغنية كان لها يومئذ من رواج:
هيل يا (رمانه)..
الحلوه زعلانه..!
والعجيب لا أدرِي لم حرصن على ترديدها ، هي بالذات.. !
فهل لتوافق طرح- طلع -تلك الحديقة.. مع ماء كليمات الأغنية؟
واليوم عدت و لم أجد.. عدا النظر لذاكا بعين حمئة، حيث أمسى أثرا بعد عين !
صحيح لازال قائما، و لم يخطّ الزمان في عارضه ما يُثقل، لكنه بالتأكيد خلاف ما كنت به يومها وأنا بين أروقته ساربا، والقلب يهيمُ..
وبالفعل أن»لكل زمان دولة و رجال»، بل لكم أتذكّر بمثل هذه المفارقات( اي ما علقته بصباك.. وبين حاضرٍ بالأخصّ إن كان قاتما ) لأن الأسى يبعث الأسى ما رُفع ل» هريرة» حبيبة الأعشى{ قال الراوي :
مررت وصاحبي.. فإذا عجوز بالأخـبية (جمع سترة)، فقلنا:
من أنتِ يرحمك الله ؟، قالت وبقايا عنفوان داخلها:
أنا التي قال بها «الأعشى»:
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ
..مِلءُ الوِشاحِ وَصِفرُ الدَرعِ بَهكَنَةٌ
إِذا تَأَتّى يَكادُ الخَصرُ يَنخَزِلُ
صَدَّت (هُرَيرَةُ) عَنّا ..ما تُكَلِّمُنا
جهلاً بأمّ خليدٍ ..حبلَ من تصلُ
..(ما رَوضَةٌ مِن رِياضِ الحَزنِ مُعشَبَةٌ
خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ
يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ
يَوماً) بِأَطيَبَ مِنها نَشرَ رائِحَةٍ
وَلا بِأَحسَنَ مِنها ..إِذ دَنا الأُصُل
فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذي بِصاحِبِهِ
ناءٍ وَدانٍ وَمَحبولٌ وَمُحتَبِلُ
و.. هنا أجدني و متمم هو أكبر لمرامي أبيات د. غازي القصيبي رحمه الله.. وكيف دلالاتها - معانيها - تأخذ بزمام تخيلاتي كل مأخذٍ، لاتفاقها و ما كانت به يومها وحالتي الآن الراهنة..
و{ تلوحين } فأنسى أنني
خبرٌ أمسى في ذمّة كان
ويعود العمر طفلا جامحا
ليس يلويه عن اللهو.. عنان
كيف أرجعتي شبابي كلّه
كيف أوقفتِ مسيرات الزمان