حامد أحمد الشريف
خطر لي بعد أن انتهيت من مطالعة رواية «همهمة المحار» للكاتبة السعودية «صباح فارسي» الصادرة عن دار تشكيل (عام 1445هـ) وتقع في 216 صفحة من القطع المتوسط، استخدام نفس النهج الذي اتبعته الساردة في سردها للحكاية وإيصال مستويات قراءتها المتعددة، وأعني بذلك تناول الرواية بطريقة مجزأة، والتعامل معها كأوصال صغيرة، تُعرف قيمتُها عند تجميعها واستظهار الصورة الكبيرة التي تمثلها، وكانت الرواية قد أوصلت لنا الحكاية الكبيرة؛ مقطعة إلى أوصال صغيرة قيمة، أو لنقل إلى شذرات وهي قطع الذهب المتفرقة، في مغزى يهدف بالتأكيد إلى بيان قيمة هذه التفاصيل المتناثرة، التي تنتظم في الأخير لتصور لنا الحياة التي عاشها هؤلاء الأبطال، وهي التقاطةٌ جميلةٌ؛ لفتتني وميزت هذا العمل الإبداعي، لذلك قررت انتهاج نفس الفكرة في الوقوف على مفاصل هذا العمل الإبداعي الجميل، وإن كنت سأفصل بين ما أعجبني وما تحفظت عليه وعدم الخلط بينهما، ويقينًا ستكون بدايتُنا مع الجمال الذي يرقق قلب الساردة ومحبيها، وبالتالي يمنحنا الفرصة لعرض تحفظاتنا والقبول بها، وهذا يعني أنني سأجتهد للمرور على كثير من تفاصيل النص، ولن أخصص قراءتي، كما أنني لن أهتم بجزئية نقدية محددة، وأسرف في تناولها، بل سأذهب باتجاه الحديث المباشر عن سيميائيات وأسلوبية وبنائية النص، وعتباته المتنوعة، ولكن على هيئة مقتطفات من هذا وذاك، تحقق لنا الفائدة المرجوة من تدارس النص والتعرف على مكامن قوته ونقاط ضعفه.
من المواقف التي صادفتني عند بداية مطالعة هذا النص، اعتقادي أنني بصدد رواية فنتازيا تشبه روايات «أسامة المسلم»، وقادني حدسي الخاطئ إلى توقع مثل هذا الانجرار نحو هذه النوعية من الكتابات السردية، طالما حقق بطلُها هذا الصيت والتناول العالمي، والتهافت المجنون، من الجميع نحو الروايات التي دونها، ونحو الكاتب نفسه، وتهيأت للحديث عن أحد أهم أنواع الخيال وأعني بذلك الفنتازيا، ولقد قادني إلى هذا التصور المبكر جدًا عنوان الكتاب «همهمة المحار» الذي يذكر لنا أن هناك قواقع تتحدث بصوت خافت لا يمكن سماعه أو تمييز مفرداته والوقوف على معانيه، وفاقم من هذا الاستنتاج المتعجل اسم الحي الذي شكل الفضاء المكاني للسردية، وقد أطلق عليه اسم «الدانة» وأتت أسماء بطلاته الثلاث «درة، وجمانة، ولؤلؤة» لتقطع الشك باليقين بسبب أن هذه الأسماء تعد امتدادًا لعنوان الرواية، والاسم الذي اختير لفضائها المكاني، فجميعها تعد مترادفات لمفردة اللؤلؤ، بدا لي وقتها أن الكاتبة إنما أرادت بذلك إبراز قيمة هؤلاء البنات، من خلال تشبيههم بالرواسب المتكلسة الثمينة، التي يتم جمعها من بعض أنواع المحار، ويكون لهؤلاء المتكلسات الثمينات قيادة دفة السرد، مما يطلق يد الكاتبة لقول ما تريده متخفية خلف حيوات متخيلة، لا يمكن بحال محاسبتها بالقوانين الإنسانية الحقيقية، وهذا بالطبع أحد أهم الفوائد التي يجنيها الروائيون الفلاسفة والمفكرون من استخدام هذا النوع المتطرف من الخيال الصرف، الذى يستنطق الجمادات أو يؤنسن الحيوانات والنباتات وجميع الكائنات، ويختبئ خلفها، فينجو من المحاسبة حين تكون المعاني كلها مضمرة لا يمكن محاسبته عليها.
عشت كل هذه الخيالات، وبدأت أسن قلمي للحديث عنها، وبينما أنا كذلك استفقت على واقع سردي مختلف تمامًا، حين اكتشفت أنها مجرد أسماء لأناس حقيقيين، وكان الهدف منها فقط فيما يبدو تبيان قيمة هؤلاء الفتيات وربطهن بعنوان السردية، وكان يمكن للساردة الاكتفاء بذلك، لخلق عمق حقيقي للنص يظهر هذا المعنى، لو لم يكن المحيط المكاني، بكل تفصيلاته الدقيقة يبرر هذه الأسماء ويرتبط بها، فحي أو جزيرة الدانة، والوصف الدقيق لعملية استخراج اللؤلؤ؛ أفقد هذه الأسماء مغازيها الخفية التي استهدفتها السردية، وبالتالي كان ربطها بالبيئة المحلية سبب في تجريدها من قيمتها، وتشتيت القارئ مهما كانت درجة وعيه، وقدرته على قراءة ما خلف السطور، فالمكان أخضع الأسماء لسياقاته وأنساقه المجتمعية، التي غالبًا ما تستحضر بعض الأسماء، وتبرر تداولها وكثرتها وتجعل المتلقي لا يلتفت لدلالتها الفهمية، ما يعني أنها مجرد أسماء تكثر في مجتمعات معينة كمجتمع جزيرة الدانة.
زبدة القول: إن الساردة لم تستخدم الفنتازيا؛ كما أوحت بداية السرد وهي بذلك لم توفق في تدسيم النص باستخدام هذه الأسماء، لنجد أننا أمام رواية اجتماعية صرفة، تصور الحياة التي تعيشها بعض الفتيات والظلم الذي يقع عليهن، بسبب مجتمعهن الكبير «الجزيرة بقوانينها الاجتماعية والرسمية» ومجتمعهن الصغير «الأسرة»، فالفتيات الثلاث كُنَّ ضحايا لهذه المجتمعات، تركنَ لها تسيير حياتهن كما تريد، ولعل ذلك يعيدنا للعنوان (الهمهمة) وهو الصوت الخافت أو لنقل الصوت الضعيف الذي لا يسمع، وبالتالي يمكننا ربطه - أي العنوان - بمغازٍ معينة للنص، لتبدو لنا السردية وكأنها تشير إلى ضعف هؤلاء الفتيات وسلبيتهن أو خضوعهن للظروف المحيطة بهن مما مكن المجتمع على تعدد مستوياته من رقابهن وأوردهن موارد الهلاك، فلم ينجُ منهن أحد، فلؤلؤة امتهنت البغاء بتغاضٍ من والدتها التي لم يكن لها من حيلة لإطعام إخوتها إلا غض الطرف عن سلوكها، بل وتقديمها لقمة سائغة للبقال، ودرة أيضًا واجهت نفس المصير نتيجة طمع والدها واستخدام جسدها لتحقيق أهدافه المالية، ولم يسلم من هذا المصير حتى جمانة رغم أنها كانت أقلهن ضرارًا، حيث أهلكها زواجها من شاب لا يستحق الزواج بها، رغم ماضي العلاقة العاطفية التي كانت تربطهما، ونعود ونكرر أن هذه المستهدفات الفهمية، أضعفها استحضار المكان، بالطريقة التي انتهجتها السردية، وبالتالي قد يعجز أغلب القراء والنقاد عن الوصول لهذه المعاني وربما ينكرها بعضهم معتمدين على أن القارئ لا يقيل عثرات الكاتب، والنصوص تعبر عن معانيها بمتونها لا بتأويلاتها التي لا ترتكز على سيميائيات وشواهد نصية تؤيدها.
وبعيدًا عن فلسفة العنوان والأسماء، وامتداداتها داخل النص، وتأثيرها على المستهدفات الفهمية، والقيمية، للسردية، فإن هذا العمل حمل على الجانب الأسلوبي أبعادًا غاية في الجمال والروعة، لا يمكننا تجاهلها، ولعلها تكون الشذرة الأولى التي نتحدث عنها، فالرواية نجحت أيما نجاح بأسلوبها الكتابي الرائع؛ في التعبير عن المغازي العميقة، وتدسيم النص بها، عندما أوقفتنا على عبارات وجمل وصفية تحوي فلسفات وعمقًا كتابيًا جميلًا، ينبغي التوقف عندها والحديث عنها، كقولها ص 37 في وصفها لحالة الفتاة التي تمارس الدعارة؛ ولحظة شرودها من زبونها؛ وهي النصيحة التي قدمتها لؤلؤة لإحدى الفتيات اللاتي يمارسن البغاء لأول مرة أو لم يعتادونه بعد؛ حين أرشدتها للطريقة المثلى للهروب من هذه اللحظة القاتلة، وبصَّرتها بأن الحل يكمن في الهروب من الجسد في قولها: «اهربي بخيالك من جسدك، انسي أنك مع الزبون، لا تكوني هناك، اهربي لبحر الدانة والعبي على الرمال، اهربي لمكان حيث لا يستطيع أحد أن يؤذيك فيه، عودي لذكرى تحبينها، حتى لو كانت طفولتك مع دميتك».
مثل هذه المغازي العميقة الموصوفة بشكل إبداعي وجدناها أيضًا في قولها ص 44: «تحت ضغط الجوع وذلة الحاجة يمضي الطاعنون في الفقر خفافًا»، وكان وصف الحب أيضًا غاية في الجمال طالعناه في ص 72 في قولها: «الحب أكذوبة رجل وسذاجة امرأة، كلاهما يتفقان على قوانين اللعبة، يصر الرجل على المطاردة، وتلح المرأة على الممانعة حتى ينفد صبر أحدهما فيصبح الخاسر منهما تحت قدر الماثل للشروط، ... الخ» .
وكان مما ميز هذا العمل الإبداعي على المستوى الأسلوبي؛ التوظيف الأمثل لحديث النفس «المونولوج» الذي ظهر بشكل جميل وحمل أفكارًا خلاقة وإبداعية، واستُخدم غالبًا في بداية الفصول، ليمثل صوت السارد أو الكاتب لكنه عُد غطاءً مقنعًا ومقبولًا لبث الأفكار والفلسفات التي يريدها الكاتب.. كقولها ص 84:
«الحياة تكرار لتجربة المحاولة في حياتنا الأولى حينما كنا أطفالًا، عندما رأينا الصور وفتحنا أفواهنا دهشة، شممنا الروائح واستغرقنا في لذة النشوة قبل أن نتبلد، .. الخ».
وكان الوصف أيضًا من أكثر الأساليب الكتابية التي ميزت السردية، ووُظِّف في رفع قيمتها السردية، على الأقل من الزاوية الأسلوبية، فظهرت كثير من الوصفيات الإبداعية المكتظة بالمعاني، وإن كان أهمها وأصدقها وصف حالة الاغتصاب التي تعرضت لها لؤلؤة من صاحب البقالة الذي وسمته بالضبع الجائع ص 98 و99 و100، كانت كتابة غاية في الروعة والجمال والصدق القاتل، وفيها وصف للمسكوت عنه، من سلوكيات تكاد لا تخلو منها أي من المجتمعات العربية المحافظة، التي تغول عليها الفقر ولم تجد لها مخرجًا إلا التغافل عن مصدر الرزق الذي يأتي به أحد أبنائها أو بناتها، وصورت من خلالها مشاعر البنت وأهلها ومحيطها بطريقة غاية في الروعة.
وخلاصة القول: فإن اللغة الأدبية في هذه الرواية كانت لافتة بأساليبها الكتابية المتنوعة، التي تنوعت ما بين التناص القرآني، والشعري، وتوظيفها لأنواع البلاغة في السرد، فظهر التناص القرآني في أكثر من موضع، حتى ليعتقد أنه طغى كثيرًا على النص السردي وأُسرف بشكل كبير وملاحظ في نثره، ومع ذلك فهو يعد ضمن جماليات النص، ساهم في تجويد لغته الأدبية وإثرائها، فليس أجمل من الأسلوب القرآني البلاغي، وكذلك توظيف المفردات القرآنية بدلالاتها القوية التي تحمل مضامين عميقة، رغم إيجازها الشديد، وكمثال على ذلك قولها في ص144: «لا نحس منهم حسيسًا ولا نسمع لهم ركزا، وآخرون متمردون صامتون،…».
ومثال آخر على هذا الجمال الكتابي التوظيف الأمثل للاستفهامات، باستخدامها بداية لشحذ القارئ وتهيئته لما سيأتي لاحقًا، عندما يبتدئ به أحيانًا قبل التصريح بما يريده الكاتب، وقد كان أكثر ما يميز كتابات الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله، ويمكن ملاحظة ذلك في قولها على سبيل المثال ص140: «هل ناما تلك الليلة، الفرح حادةٌ شفرتُه تمامًا كالحزن ينسينا النوم، …».
ولعلي أضيف أيضًا بالنسبة للغة الأدبية وجمالياتها، التوظيف الجميل لحرف العطف الواو في بدايات الجمل والفقرات، فرغم بساطة هذا الأسلوب الكتابي؛ إلا أن له وقعًا رائعًا في نفس المتلقي، يعيدنا إلا زمن العمالقة من كتاب العربية الكبار، كالمنفلوطي، والعقاد، وطه حسين، وإحسان عبدالقدوس؛ الذي امتازت كتاباته كثيرًا بعطفه للجمل حتى أصبحت أحد لزماته الشهيرة.
وشذرة أخرى ينبغي التوقف عندها، لفتتني كثيرًا في هذه الرواية الجميلة وميزتها، نلمسها في توظيف العمل السردي للبوح وكتابة الخواطر والتنفيس عن الكاتب، ولكن، في قالب مقبول وذي قيمة، وهو القالب السردي الروائي، فالكاتب هنا وظف الأحداث لقول ما يريد، والتعبير عن مشاعره بطريقة جميلة ورائعة، بدل أن تسرد مثل هذه المشاعر في قوالب كتابية غير مُجنَّسة لا يُلتفت إليها عادة، ويقلل من قيمتها كتابتها ونشرها على هذا النحو غير المجنس، أجده ذكاءً كتابيًا، يحسب للمؤلف طالما أنه أحسن توظيفها، وأتت في سياق درامي مناسب ومبرر، وهو ما يقودنا للقول دائمًا إن الإبداع لا يمكن تقييده في قواعد معينة، مهما كانت قيمة هذه القواعد، ولابد للمتلقي أن يحسن التعامل مع التجاوزات المقننة، فهي من تخلق فضاءات إبداعية جديدة وتدفعنا للتطور، وكشاهد على هذه الخواطر والبوح الذي وظفت الرواية لنثرها بطريقة جميلة؛ بدايات الفصول، أو الشذرات ونهاياتها أحيانًا، التي غالبًا ما يكون لها هذه الصفة كقولها على سبيل المثال لا الحصر ص 122:
«كل ضوءٍ ينشر خلفه ظلًا لمنطقة مظلمة تعشعش فيها رغباتنا المكتومة، صراخنا الهادئ، وأحلامنا العالقة ما بين بين، وربما كنوزنا المخبأة في ظلال ذواتنا المجهولة الغارقة في الظلمة هي ما يميزنا، …».
وقولها في نهاية هذه الشذرة ص 126: «ثمة من يعيش الحياة بوهم أنه موجود، وفي واقع الأمر هو مجرد ظلال لبشر تتخايل حياة، ظلال مشاكسة على جدار الزمن…».
وشذرة أخرى أيضًا ميزت هذا العمل الروائي، يمكننا ملاحظتها في احتوائه على أجناس أدبية مختلفة من دون الإخلال بالسرد وانسيابيته المعتادة، فبجانب النثر الفني غير المجنس «الخواطر» الذي رافقتنا كثيرًا في رحلتنا القرائية؛ ظهرت الرسالة كجنس أدبي أوشك على الاندثار، واستأثرت بجزء من السرد، وإن كان بسيطًا، لكنها عُدت من جماليات هذا النص السردي، نظرًا لإتيانها في سياق مقبول ومبرر، وأدمجت في النص بطريق غاية في الجمال والمنطقية، حتى لا تكاد تتبينها وبالتالي لا يمكن لك إنكارها مهما كانت حميتك السردية حاضرة، وهي بذلك - أي المؤلفة - قد حققت مبتغاها باعتماد السرد كوعاء تصب فيه مشاعرها وأفكارها وفلسفاتها، بالأساليب الكتابية المتنوعة التي تختارها ومنها بالتأكيد؛ أدب الرسائل، والنثر الفني، الذي يوصف بالخواطر.
إن هذا الجمال الذي استغرقنا لم يستطع إبعادنا عن الوقوف على بعض الملاحظات الفنية التي يعتقد أنها أخلت بالسرد وأضعفته، من ذلك على سبيل المثال التحدث عن الأحداث المستقبلية مبكرًا قبل حدوثها، فهذه المنهجية السردية لم تعجبني على الإطلاق، فالتصريح بالأحداث المستقبلية قبل وقوعها من قبل الراوي العليم ومع أنه لم يتجاوز حقوقه إذ يحق له ما لا يحق لبقية الرواة، إلا أن الأوجب من وجهة نظري تركها لإضفاء عنصر التشويق والإثارة على الحكاية، ولم يكن مقبولًا لدي محاولة تمريرها بذريعة أنه تصريح بالعناوين، يدفع القارئ للبحث عن تفاصيلها، رغم أنه أسلوب متبع عند بعض الكتاب، لكنني أميل للإخفاء الكامل وترك الأحداث تتوالد أثناء السرد بطريقة مفاجئة وغير متوقعة وهو الأسلوب الذي يشكل نقطة جذب كبيرة ويزيد من ارتباط النصوص بقرائها، والتفريط به في ظني إضعاف للنصوص وتقليل من متعة قراءتها، وربما التأثير على ذكاء النص وقيمته العقلية، كما يظهر من قولها في ص 92: «ولكن الجمهور ذاته الذي صوت لها، الذي لعبت بما يرضي ذوقه حين غنت (أنا هويت وانتهيت) هو عينه سينقلب عليها، سيخذلها،… «. فكما نلاحظ هنا أن السارد وقع في الإخبار المستقبلي عن الحوادث بالإضافة إلى إفصاحه عن معانٍ عميقة، كان يفترض تركها لفطنة القارئ وقدرته على سبر أغوار النص واستنتاجها بنفسه، وهي في هذا النص المجتزأ، نراها في تنكر المطبلين لك إرضاءً لذواتهم، عندما لا تستطيع تقديم ما كانوا يطلبونه، وهو واقع بالفعل، وكان حري بالسارد تركه كمعانٍ مضمرة، يفخر القارئ باكتشافها بنفسه، وتزيد من ذكاء النص وارتباطه بالمتلقي… وهو ما تكرر كثيرًا مما يؤكد أنه نهج متبع، ولم يكن حالة فردية كحديث الساحرة مبروكة وتنبؤِها بما سيحدث لاحقًا للثلاث الفتيات، درة، ولؤلؤة، وجمانة. ص 30 في قولها: «درة.. قبرك على جبينك في شاهق العلو.
لؤلؤة.. فقرك خطيئتك، في النور نجاتك.
جمانة.. ماء قلبك، هو موردك للشفاء.»
وقد قاموا بزيارتها صدفة، لتُلقي تعويذتها السيئة في طريقهن، وقد حدث بالفعل كل ما أخبرتهم به، وكذلك الحديث عن الفرن، الذي سيحترق وسيتسبب في كارثة للحي ص 14 و ص 27 و ص 90 وقد تحقق ذلك بالفعل ص 104 ما يعني التفريط في عناصر تشويق، كانت ستخدم السردية وتزيد من تعلق القارئ بها، وقد تكرر ذلك أيضًا في الحديث مبكرًا عن الحريق أنه مفتعل في ص 104 قبل التصريح بذلك في ص 111 وإيضاح أن البقال هو من يقف وراءه، خدمة لعقاري كبير، أوعز له بهذا الفعل لتملك الأراضي وإقامة مشروعه عليها.
وشذرة أخرى استوقفتني وأظنها قللت من قيمة هذا العمل، تتلخص في الإكثار من استخدام المصطلحات المتخصصة، والاضطرار لتفسيرها في الهامش، كالإغراق في تضمين النص مفردات خاصة بمهنة الغوص، وترجمتها في الحواشي السفلية دون الحاجة الحقيقية لها، فالرواية في ظني ليست كالكتب المعرفية التي تستلزم شرح المصطلحات المتخصصة المجهولة، التي قد نجدها أحيانًا في الروايات المترجمة، بسبب وجود وسيط ناقل ولغتين مختلفتين؛ تستلزم هذه الحواشي، لكنها في المؤلف السردي العربي تعد عيبًا كتابيًا على الأقل من وجهة نظري الشخصية، وكان الأحرى بالكاتبة إما عدم ذكرها، إذ لا حاجة لها مطلقًا فهي غير مرتبطة بالهيكل البنائي للرواية، وحذفها لن يؤثر مطلقًا على صيرورة الأحداث ومضامين النص الظاهرة والمضمرة، أو تفسيرها من خلال السياق إذا استلزم الأمر، في حال كان السرد بحاجة إليها ولا يمكن الاستغناء عنها، وإن كنت أميل لعدم إشغال رواية خيالية بمثل هذه المصطلحات التي لا فائدة مرجوة منها؛ إلا في إظهار ثقافة الكاتب، وفي نفس الوقت تضعف النص، وتؤثر على انتمائه للجنس الأدبي، وكمثال نجد بعض مصطلحات الغوص المنثورة في ص 34 وص 40 و41 و43 و44 و45 التي بلغ عددها 14 مصطلحًا، واستمرار ذلك في ص 65 حيث زج بعدد أربعة مصطلحات بشكل فج ودون حاجة وهي «الغيص» و«الفطام» و«الخبط» و«الشمشول» وكلها كما يلاحظ لا يحتاجها السرد على الإطلاق إذ لا مساس مباشر لها معه، وكانت دخيلة على النص، ولقد أتت كل المصلحات الخاصة بمهنة الغوص بهذه الطريقة، وتكرر الأمر في صفحات كثيرة أخرى وربما هذا الأمر أوقع الكاتبة في خطأ استخدام أحد المفردات، حيث وصفت الشباب الصغار ومن هم في طور تعلم هذه الحرفة بـ «وليد» بينما تسميتهم في مصطلحات الغوص القديمة «غيض».
تكرر هذا الزج غير المبرر، مع بعض المصطلحات العلمية المتخصصة والمفردات الأجنبية، التي فيها تباهٍ بثقافة الكاتب دون الحاجة لها في النص، والاضطرار لوضع هوامش لتفسيرها بنفس الطريقة السابقة، مع أن الرواية كما أسلفت، ليست كالكتب المعرفية أو العلمية؛ يضعفها تفسير المصطلحات وتهميش النقولات، التي تقوى بقية الكتب وتحفظ حقوق الجميع، وبالتالي فإن الرواية ليس لها غير السرد بتقنياته المختلفة لإيصال المفردات والمعاني التي تستهدفها، وكشاهد على تلك التجاوزات الفنية نجد قولها في ص 93: «وأصبح الجميع يرى هشاشة الماريونيت» وكانت تقصد الدمى المعلقة بالخيوط.
وشذرة أخرى تتعلق بالمكان والزمان وخللهما البنائي في تدوين هذه السردية، إذ لم يكن للمكان والزمان ذلك الحضور المميز المرتبط بالسرد، بل إن المكان وقف حائلًا أمام منح السردية قيمة حقيقية للعنوان، كما أسلفنا، عندما استُخدم كمبرر لأسماء بطلات العمل، بينما كان النص بحاجة لعدم ربط المكان الرئيس بتلك المسميات، حتى تظهر قيمة تلكم الأسماء ومدلولاتها المضمرة، ناهيك عن أن المكان في الأصل لم يكن موظفًا لخدمة السرد بالمطلق، ويمكن للنص الاستغناء عنه من دون الإخلال بالسردية، وهذا عيب بنيوي خطير، فالمكان يعد ضمن الاشتراطات الأربعة التي تختبر من خلاله السرديات فغياب قيمته وقدرة النص على الاستغناء عنه يعد خللًا كبيرًا في هيكلية النص السردي وبنائه، ولقد تكرر هذا التهميش للمكان وعدم منحه القيمة التي يستحقها، حتى في الأماكن الفرعية، إذ كان ثانويًا جدًا بل وأضر بالسرد، كالانتقال إلى ولاية «لوس أنجلوس» فلم يكن هناك ما يبرره على الإطلاق بل لربما أوقع السرد في مطب بعض الأحداث غير المبررة مثل مشهد انتحار درة، حيث تخلى عنها والدها الذي رافقها طوال السرد كظلها، وفجأة وجدناه يتركها تذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وهي في ذروة نشاطها الفني وتسليط الأضواء عليها، فكان مستهجنًا ذهابها في ذلك التوقيت، بذرائع واهية وعودتها من هناك لتوقيع عقود فنية واغتصابها، ما يعني أن ذهابها تخلل نشاطها الفني، وبالتالي نجد أننا أمام سرد غير منطقي أظهر المكان وكأنه عبءٌ على النص؛ وليس خادمًا له، هذا الأمر تكرر مع الزمان الذي لم يلتفت له السرد مطلقًا، وكان مغيبًا، بل بلغ تهميشه أن أصبحت أزمنة الحكاية متداخلة ما بين رحلات الغوص القديمة، التي تشي بحقبة متأخرة، قبل ثمانين عامًا، وبين وقتنا الراهن الذي تميز بالتقنية، ولم يكن هناك ما يبرر هذا أو ذاك، سوى أن السارد لم يستحضر قيمة الزمان والمكان البنائية في السرد فأصبحا مصدر ضعفه بدل أن يكونا مصدر قوته، وكما هو معلوم فإن عناصر السرد الأربعة، المكان، والزمان، والشخصية، والحدث، أو الصراع، تتحكم في قيمة العمل السردي بالمطلق، ويسند إليها تحديد معالمه الهيكلية، التي يبنى حولها كامل السرد، فلا يصح إغفال أي منها أو تهميشه، وكذلك لا يصح تعظيمه دون مبرر، فتكون قيمة العمل السردي بالقدرة على إنضاج هذه العوامل الأربعة، وجعل السرد يمتطي صهوتها ويتنقل بك كقارئ من وقت دخولك للعملتى خروجك منه.
وشذرة أخرى ليس لنا تجاوزها، رغم محدودية تأثيرها، وعدم إضعافها للنص بشكل كبير، لكثرة ما يقع فيها الساردون، وربما تجاوزها كثير من النقاد، بذريعة أن متن السردية يخص الكاتب وليس للمتلقي التحدث عنه، لكنني على المستوى الشخصي، تستوقفني السردية إذا أهملت منطقية الصراعات؛ ولم تحاول صياغة تبريرات تمررها وتدفع المتلقي للقبول بها، وهو ما وقفت عليه في حادثة وفاة الجد ص 45 إذ لم تكن مقنعة على الإطلاق، فضلًا عن غياب علاقته البنيوية بالنص وهيكليته، وكان الأجدر بالسارد - في حال احتاجها النص - صياغتها بطريقة مقنعة، فما الذي يدفع الغواص للاستسلام بهذه السهولة والبقاء في مكانه والموت غرقًا، عندما لم يقم فريق الغواص بشد الحبل، رغم أنه بين الموت والحياة ومعلوم أن الإنسان في لحظة كهذه لا يستسلم مطلقًا، بل يحاول إنقاذ حياته بأي طريقة كانت، ومعلوم أيضًا أن الغواصين يلجأون قديمًا لهذه الطريقة وصولًا للسرعة المطلوبة، التي قد لا يستطيعها الغواص وكذلك خشية إرهاقه في الصعود، وبالتالي انقطاع نفسه وتعرضه لخطر الغرق، وكل ذلك يجعلنا نكاد نوقن أنه في حالة الاضطرار سيصعد بنفسه مستثمرًا فرصته الضئيلة للنجاة، بينما الرواية جعلته يستسلم مباشرة ولا يبذل أي مجهود لإنقاذ نفسه، وكذلك في منطقية الأحداث وتبريراتها السردية نجد أن اجتماع البحارة على قتل الجد، من دون سبب مقنع في وقت أظهر السرد أنه أراد الخير لهم فكافأوه بقتله، وإذا ما تجاوزنا ذلك لأي سبب كان، فكيف لنا تمرير عدم خشيتهم من افتضاح أمرهم، مع أن المتعارف عليه أن السر إذا تجاوز اثنين ذاع، فكيف به وقد تجاوز كل هذا العدد من البحارة، وكان يتعلق بجريمة قتل غير مبررة على الإطلاق؟!!!
خلاصة القول إن «همهمة المحار» كتبت بالطريقة التي تجعلنا نتحدث عنها كثيرًا وكأن المؤلفة كان ضمن أهدافها إشغال الجميع بالحديث عنها، فهي تحمل بين طياتها الجمال بشتى صوره، ولديها بالتأكيد ما يميزها ويعلي من شأنها، في وقت لم تخلُ من توقفات فنية لا تجيز لنا إهمالها مهما كان الضرر المتوقع عليها، لذلك لم أجد طريقة أنسب للحديث عنها سوى اعتبارها شذرات إبداعية نتبين من خلالها قيمة السرد الفنية.