د.حصة بنت زيد المفرح
(متنزه الغائبين) مجموعة قصصية للكاتب العراقي ميثم الخزرجي، تتكون من سبع قصص قصيرة، وتراوح أحداثها بين عوالم السرد الإنساني والسرد ما بعد الإنساني، كما تراوح القصص بين موضوعات متباعدة متقاربة في الوقت نفسه؛ إذ تركز على الأمراض النفسية وأسباب نشوئها لدى شخصيات القصص، ثم تذهب إلى عوالم الفلسفة والفلاسفة، وتطرح أفكارًا فلسفية ذات صلة بثيمات النصوص، وتربط ذلك كله بالتكنولوجيا، وعوالم التقنية الحديثة، وتعرج على الذكاء الاصطناعي؛ لتجعله مرتكزًا رئيسًا في إحدى القصص إضافة إلى الاستفادة من سماته في قصص أخرى.
وقد قدم عدد من النقاد العرب جهودًا مميزة في مجال السرد ما بعد الإنساني ترجمة وتأليفًا، وعلى رأسهم الناقدة العراقية الدكتورة (نادية هناوي) في كتاب ومقالات متفرقة ركزت فيها على (السرد غير الطبيعي) الذي يقوم على لا طبيعية السرد، كما في أحداث مستحيلة الحدوث تقوم بها شخصيات غير آدمية، وهو سرد له حضور قديم في الحضارات الشرقية التي تحفل بالخرافات والأساطير كما تشير، ثم ذهبت إلى لا طبيعية السرد في تشكلاته المختلفة حدثًا وشخصية وساردًا. كما ركز الناقد السعودي الدكتور(منصورالبلوي) على السارد تحديدًا، و(السرد المستحيل) الذي يصنفه ضمن عوالم ما بعد الحداثة، وهو الذي يتولى سرد الكائنات الإنسانية غير الطبيعية أو غير المعقولة، إضافة إلى الآلات والجمادات، وربطها بمفهوم السارد غير الموثوق، أو المشكوك فيه. ويذهب الناقد السعودي الدكتور (عبد الرحمن المحسني) إلى مشاركة الذكاء الاصطناعي الكاتب الإنسان في فعل الكتابة الإبداعية، وعلاقة السرود بذلك، مع الوقوف على نماذج شعرية وسردية من إنتاجه.
غير أن ما سأعرضه هنا، لا يتقاطع مباشرة مع هذه الجهود المميزة في التعاطي مع السرد اللا إنساني، وتأثيرات الذكاء الاصطناعي في دعم مستقبل الكتابة الإبداعية الجديدة، وإنما يتوجه نحو التركيز على توظيف سمات الذكاء الاصطناعي وقدراته في تشكيل السرد؛ فالكاتب لا يتوجه مباشرة إلى الذكاء الاصطناعي ومقتضياته ليجعلها حاضرة بوصفها شخصية رئيسة، أو ساردة للأحداث، وإنما يعمد إلى استثمار معطياتها في تقديم حكايات متداخلة، وابتكار حبكات سردية متنوعة، وهي غير معنية بمباشرة الحديث عما يقوله السرد عن تأثير الذكاء الاصطناعي على العالم الإنساني عبر استشراف مستقبله القريب أو البعيد فحسب، بقدر ما تعنى بعلاقته مع الإنسانية، وأسئلتها المتجددة، ورؤاها النفسية، والفلسفية العميقة التي تعيد صياغة الإنسان وفق عوالمه(الاصطناعية) الجديدة.
ويقتطع عنوان هذه المجموعة(متنزه الغائبين) من أحد عناوين قصصها، وهو مكون من كلمتين: متنزه، الغائبين، وإن كان في التنزه فسحة للنفس الإنسانية، وتسلية لها، ووسيلة للتخفف من هموم الحياة؛ فإن الكلمة الثانية(الغائبين) تكبح جماح هذه الدلالة، وتصيرها فسحة ناقصة، وتسلية غير متحققة، وتخففًا معطوبًا؛ فهناك حضور في فعل التنزه الذي يقتضي وجود من يقوم به وهو إنسان، وهناك غياب لقائمة طويلة من الناس عبر عنها بالجمع(الغائبين)، ولم يكن الغياب الإنساني في هذا العنوان إلا غيابًا آخر داخل النصوص تبدى في صور متنوعة من جهة، كما أن هذا الغياب الإنساني مؤشر على حضور غير الإنساني من جهة ثانية.
ويتشكل الغياب على مستوى النصوص في ظواهر مختلفة؛ حيث الفقد الجزئي في الأنثى التي تعرضت لكسر صورتها الأنثوية بفقدانها أحد ثدييها، وشعورها بالنقص وأنوثة لم تكتمل في (الدائرة القصية). وهناك الفراغ الذي يتشكل في العنوان قبل النص في (الماثل في الفراغ)؛ فالفراغ غياب، ولا نشعر بالفراغ إلا بعد الامتلاء، وهو ما تعرضه القصة من فقد عائلة الرسام الكاريكاتيري جراء زلزال عنيف ضرب مدينته، تنتج عنه صدمة نفسية أفقدته صوته، وفقدان الصوت غياب أيضًا، ثم تشخص إصابته بـ « نكوص ذهني ليس له بد من أن يعبر عن مأساته، وقد يصل إلى انحسار نفسي عظيم». إضافة إلى صمت المرضى النفسيين وإعلانهم الاحتجاج، والرفض بالصمت نفسه في أكثر من قصة.
وهناك الدليل السياحي لمتحف الفلاسفة الذي يبحث عن ذاته المفقودة بين جدران غرفته المكسوة بالمرايا بعد فقد زوجته وابنته؛ فيعاني العجز، والعزلة، والفقد، ويبحث عن التعويض في (حجرة المرايا) ويتحدث مع تماثيل الشمع الصامتة في المتحف، وابنته قبل وفاتها كانت خرساء جراء فقد والدتها مريضة السرطان؛ إذ كان في بيت بلا صوت، يكتفي فيه بلغة الإشارة، واهتزازات الرأس، وحركات ملامح الوجه، وهو بدوره يفقد الذاكرة جزئيًا، ويبدأ باستعادتها عندما يقرأ بعض أوراقه القديمة المخبأة في صندوق يحتفظ به منذ مدة، ثم يعبر عن نفسه بعد ذلك بأنه يسير بمدونتين، ويعيش في عالمين شاخصين بما يشبه حالة الفصام.
وتتنوع الشخصيات المأزومة في القصص الأخرى بين الدكتور المختص في علم الهندسة الوراثية، الذي دفعه الخوف إلى التخاطر مع الآخر في (رهان القادم)، و سباهي العظيم الذي يعيش بين صمت القبور في (متنزه الغائبين)، والأستاذ الجامعي أستاذ العلوم الذرية الذي يواجه الصمت في (وجهة الطير)، وساعي البريد ومواجهته للقلق والخوف بعد موت زوجته وابنته في وباء كوفيد 19، وتحوله للصمت عند القراءة وأثناء المشي في (اللائذون بالظل)، وكل هذه الشخصيات تلوذ بالصمت؛ لتحقق مفهوم الغياب.
وبينما تركز النصوص القصصية على الإنسانية وما بعد الإنسانية، يذهب الإهداء منذ الصفحات الأولى للمجموعة إلى رصد حالة التحول من هذه إلى تلك؛ فإن يكن الإنسان مغتربًا عن عالمه يعني أنه مستعد لهذا التحول ومرتهن إلى مظاهره «إلى إنسان هذا العالم وتداعيات اغترابه».
ولعل ما تبدأ به المجموعة، والقصة الأولى منها تحديدًا يذهب إلى هذا التحول « من الآن فصاعدًا، سأعدل من نظرتي للمحيط بموجوداته كلها» بعد تحرٍ عن أحوال أناس ليس بمقدورهم إعادة تنشيط وتقويم رؤاهم وفقًا للمطلوب، حتى إذا وصلوا إلى أسئلة تفنى بسبب غيابهم أو تغييبهم؛ توقف الحديث، وأعلنوا الصمت.
وهذا الإهداء ومعه جملة البداية يمهدان للحضور اللا إنساني في المجموعة، الذي تجلى في جوانب متنوعة سنسعى إلى رصدها، حتى وصل إلى تصريح في إحدى قصص المجموعة عن عزم على» إعلان دور الرجل الآلي وتقليص دور الإنسان في هذا الكون استعدادًا للمثول نحو حياة مغايرة».
وإذا كانت فلسفة ما بعد الإنسانية تركز على تقويض مركزية الإنسان/ الفرد، والبحث عن الممارسات الجماعية/ الاجتماعية المشتركة من جهة، ومواجهة سيادة العوامل الإنسانية/ البشرية؛ لتطرح عوامل أخرى مؤثرة كما في: الحيوانات، والنباتات، والحواسيب، والذكاء الاصطناعي من جهة ثانية؛ فإن تركيز القصص على حالة الضياع التي يعيشها الإنسان حين يفقد الآخرين، وما تتسبب فيه هذه الحالة من مشكلات نفسية وعقلية ستوجه المسار إلى ابتكار عوالم جديدة لا إنسانية؛ لتتعايش مع الإنسان، وتسهم في حل مشكلاته، أو تزيد من تعقيداتها حين تصل إلى اغتراب الإنسان في ظل سطوة التقنية، واشتغالات الذكاء الاصطناعي، عوضًا عن تزامن حالات الفقد الإنسانية مع فقد لا إنساني، كما في حالة فقد العائلة التي تتزامن مع فقد على مستوى آخر؛ حيث انفجار القمر الصناعي الذي أطلق نحو الفضاء الخارجي.
ولا نعدم وجود بعض الألفاظ الدالة على هذا التحول من الإنساني إلى اللا إنساني الجديد المشغول برهاناته: أتقصى عن جذر المريض، انخرط بالبحث والتنقيب، فهرسة الأسماء، شعبة التحقيق الموجي، اهتزاز موجي، الطاقة الصوتية، العلوم والتكنولوجيا، العقل البرمجي للجهاز. إضافة إلى حضور بعض الشخصيات اللا إنسانية وإن كانت مألوفة، كما في(القمر) وهو في صورة الحبيب الذي ينتظر معشوقة(إنسانة) في قصة (الدائرة القصية).
وترصد القصة نفسها حكاية طبيبة نفسية تتعايش مع حالات مصابة بأمراض نفسية مختلفة تعاني بدورها من العزلة التي يخترقها كائن لا إنساني آخر، وهي وتؤمن» بأن الإنسان خلق بمفرده ويموت بمفرده» لكن هذه العزلة لا تنطبق على الحيوان(الكلب) الذي ترافقه في تفاصيل حياتها؛ أنيسًا لوحدتها ومبددًا لعزلتها، وتجعل حضوره معها موضع تساؤل» لطالما كنت أتأمل ثنائية العلاقة بين الإنسان والحيوان، أصارع الوحدة فأخالط ما يشي لأية امرأة لها جموعها الناشئ مستخفة ببعض الأفكار المتوثبة».
وقد تتجاوز البعد الإنساني الكلي، أو ذلك الجزئي المرتبط بعلاقة مع الحيوان؛ فكلاهما كائن حي، إلى بعد جديد يلامس كائنات غير حية كما في قصة (الماثل في الفراغ) التي تذهب إلى حضور شخصية لا إنسانية، فعند البحث عن ماهية صوت يدوي في الفراغ، يكون الصوت طاقة لا تفنى؛ إذ كانت الموجة الصوتية متحدثة، وتقتفي أثر الإنسان» لا تبحث عني بمسار معين، أنا سائبة كحال الكثيرات ممن احتضنهن الفراغ... أنا موجة صوتية عابرة أدور في هذه الفجاج، تعلقت بك في شعبة التحقيق الموجي وخبرت نواياك التي تمتمت بها» ثم يمتد الحوار مع هذه الموجة الصوتية الهاربة من جهاز يستكشف الكائن البشري؛ ليربط إنسانًا حاضرًا بآخر غائب، وكأن الصوت السمة الأسمى التي تبرهن على وجود هذا الإنسان.
وتستثمر الآلة السمات الإنسانية؛ لتصنع سماتها كما جرت العادة إذ « تقرر إدراج الترددات البشرية في الجهاز على وفق المقرر الصوتي المعني للكائن البشري» ومع مضي هذا الإنجاز إلى تحقيق بعض أهدافه على المستوى اللا إنساني، نجده يخفق في استعادة الإنسان نفسه، والحفاظ على سماته الإنسانية فتعود حالة الصمت مرة أخرى بين الناس؛ خوفًا من احتفاظ الأجهزة بترددات أصواتهم، وتوظيفها في مسارات أخرى، فقد» صار عدد الأصوات البشرية يخف تدريجًا إلى أن أصبحت اللغة المشاعة هي الإيماءة» وكأن الإنسان يصل إلى مرحلة الصمت؛ لتتحدث التكنولوجيا والآلة نيابة عنه.
وهي لا تغفل تفسير الحالات الإنسانية المرضية بمنطلقات مختلفة؛ ففقدان الصوت جراء الصدمات، رغم تفسيره -علميًا- بوجود مشكلة في خلايا الدماغ تعوق القدرة على التمييز، والتشخيص، والنطق المرتبطة بالكلمات فحسب؛ فإن المشكلة تتطور، وتتحول إلى خلل في القدرات العقلية ومعاناة من(نكوص ذهني)، لكن اكتشافات الأنثروبولوجية أستاذة علم السلوك تبحث في مكنون الإنسان، وجوهره إزاء التدفق المعلوماتي، وتبرهن على أن أفكار الإنسان يمكن أن تكون مكشوفة بطريقة ما، مع اهتمامها بالتقنيات التكنولوجية؛ حيث يكون الواعز الذهني مُقيدًا تبعًا لأنشطة هذه التقنيات.
وتمضي قصة (رهان القادم) إلى كيفية مقاومة الأمراض النفسية مثل: الفصام، والعصاب، وانكسارات الغياب، والفقد، والعزلة، وما تسببه من أثر على العقل والدماغ، وذلك بمعالجة جزء منها بالتقانات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وكيفية صناعة خلايا جديدة تؤدي وظائف بشفرات برمجية، وهذه الشفرات يكون باستطاعتها تحويل الأفكار والقناعات، ونسخها في هيئة جديدة؛ لا تستجيب للمنطق الإنساني الذي قد تسيره أفكاره، ومشاعره الإنسانية إلى مزيد من الإحباط، والتلاشي، والعزلة؛ وصولًا إلى الغياب.
وفي القصة، الدكتورة(مايانا) المهتمة بدراسة كيفية التعاطي مع مستحدثات علمية تستفيد من معمارية الإنسان الحسية والمادية، وباحث/ سارد(وارشو) يتقدم ببحث عن استقراء حالة الإنسان بعد تجميد أعضائه الحيوية لمدة عشرين عامًا، يطوره فيما بعد عند صناعة(الروبوت شيفا)، وترصد القصة مجريات هذا البحث الذي يقوم على إيداع القلب الإنساني في محلول حيوي يستخلص مشاعر الإنسان لمدة لا تقل عن عشرة أيام، وأخذ السائل المتولد عن قلب الإنسان، وإدخاله في معالجة كيميائية؛ للتحقق من مواءمته لهيكلية الروبوت تمهيدًا لإيداعه في جهاز داخل هذا الروبوت؛ ليستفيد من قدرات القلب الطبيعية، من نبضات قلب، وأحاسيس ومشاعر، وعاطفة، وما ينتج عنها بعد ذلك من سلوك، وتصرفات فطرية، مع تخطيط للذهاب بعيدًا إلى التشابه في الشكل والملامح، ومطابقة الجسد الإنساني» نعمل على بناء إنسان آلي مستل بجميع التفاصيل من الجسد والشعور للإنسان الحقيقي نفسه».
وهو بعد لا ينفك عن تأكيد القدرات الإنسانية الفائقة للإنسان التي تخوله بأن يكون مصدرًا لتطوير قدرات إنسانية أخرى، وإن كان بوسائل غير إنسانية، ولا يبتعد هذا المشروع عن حالات الفقد، والغياب، والصمت جراء الصدمات التي ركزت عليها قصص المجموعة؛ إذ يضع من بين أهدافه أن» يحسر مراحل الفقد ويزيل مضمون الوحشة «.
وينسجم هذا المشروع الجديد مع مشروع قديم قادته باحثة في الهندسة الوراثية وعلم الأجنة(إيسلا) التي فقدت أستاذها الذي كانت تودعه كل مرة بعبارة أثيرة لديها» إنك في القلب» لتسمع ما يتعالى داخله رغم الصمت، ولتشرع في ملء فراغاته، وقراءة الآخرين، ولتهتم لاحقًا باستقراء العوامل الوراثية للفرد، ومحاولة معالجتها، وإقصاء الجوانب السلبية فيها، والبحث عن أسباب اختلاف الإنسان عن ذويه في سمات فطرية ما، ثم تلتقي بالباحث الجديد الذي قدم مشروعه عن القلب الإنساني، وتمخضت اللقاءات بينهما عن كشف لمشروع قديم كانت تسعى فيه إلى إعادة» صيانة الخلايا المعطوبة في دماغ الإنسان عبر تهيئة خلايا وريثة لها ومشابهة من حيث الخصال وادخارها في محلول لبيان وظيفتها عبر السائل وحقنه في الخلايا المعلولة» وكلا المشروعين يعملان على أهم ركنين في الإنسان(العقل والقلب)؛ مما نتج عنه قرار مشترك «علينا أن نشتغل على الإنسان» بعد التيقن من أن إغفال العقل في المشروع الجديد، والاكتفاء بمشاعر إنسانية روبوتية نابعة من قلب الإنسان لن يكون كافيًا؛ لذا كان التفكير في» تجميد خلايا الدماغ» أيضًا، والمضي نحو الاشتغال على خوارزمية رياضاتية ذكية، والاستفادة منها في صناعة خلية ترتبط بتقنية الذكاء الاصطناعي من منطلق» سنغير العالم حال توقف الألم» .
ومع أن المشروع حقق نجاحًا نوعًا ما، إلا أن إمكانية اختراق النفس البشرية للوصول إلى حقيقتها لم يكن ممكنًا. هذا البعد قد يعود مرة أخرى إلى مركزية الإنسان التي تحاول ما بعد الإنسانية تقويضها لصالح العوالم غير الإنسانية الأخرى، لكنه يركز على استثمار التكنولوجيا الحديثة في تعزيز القدرات الإنسانية؛ مما يشي بأن الإنسان لن يكون مركزًا على الدوام، بل هو بحاجة إلى هذه العوالم التي تطور من علاقته بها، وهذه العلاقات التي تقلل من الحواجز؛ فتساعد على الاندماج الإيجابي الذي يمكن أن يخفف أشكال المعاناة الإنسانية، إن كان على مستوى العوائق الجسدية، أو العقلية، أو النفسية، أو ما يهيئ الإنسان إلى مرحلة جديدة تحقق ما كان حلمًا في يوم ما.
ومن خصائص الذكاء الاصطناعي التي يستعين بها السرد أنه يحاكي ما يفعله العقل البشري في جمع المعلومات، والأفكار، واللغة من مصادر متباينة مقروءة، ومرئية، أو بتفاعله مع العقول البشرية الأخرى في هيئة حوار، أو نقاش؛ لتستفيد من إمكاناته البحثية العالية، إضافة إلى الاستفادة من خصائصه في تشكيل حبكة السرد، وتداعي الأحداث، كما أن سرد الأحداث لن يقوم على سرد عقلاني يقوم به عقل إنساني، ويعتمد على استدعاء اللغة السردية المعتادة، وإنما هو عقل لا إنساني ينجز ما ينجزه بالاستفادة من معطيات العقل الإنساني أولًا؛ إذ هو مستوحى في الأصل من تركيبه وخصائصه، ثم يمضي نحو عوالم لا إنسانية حتى على مستوى السارد والشخصيات نفسها.
وبعد؛ فإن المجموعة القصصية تراوح بين السرد الإنساني وما بعد الإنساني، مشخصة واقع الإنسان الذي قد يكون مثخنًا بالآلام، والأمراض، والمشكلات الجسدية، والعقلية، والنفسية، وتتخذ هذا الواقع عمادًا لطرح فكرة ما بعد الإنسانية، وكيف يمكن بها ومعها تجاوز ذلك كله، أو حتى مجرد المحاولة، مع ما يشوب هذه الفكرة من اختراقات أخلاقية ملحوظة تجلت في تغيير الجنس الإنساني بملامحه وطباعه، وإجراء تعديلات وراثية عليه، أو الذهاب إلى استنساخ نسخ جديدة منه، غير أنها استثمرت ذلك كله في إنهاء معاناة الإنسان على هيئة حلم مشروع، وإن كان السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا ختامًا: ما معنى أن نحول الإنسان إلى اللا إنسان؟ وهو سؤال مفتوح يحتمل إجابات كثيرة.
** **
- جامعة الملك سعود