وقع بين يدي ديوان ( سوانح ) للأستاذ الشاعر كريم معتوق -حفظه الله-، والديوان من إصدارت مجلة دبي الثقافية عدد أكتوبر 2013م عن دار الصدى ، وهذا هو الديوان الوحيد الذي ظفرت به من مجمل تجربة الشاعر، لذا فالملاحظات التي سأوردها في هذا المقال موجهة لهذا الديوان بالتحديد ، وهي ملاحظات متذوق للشعر، لا تنقص ملاحظاته من قيمة العمل ولا ترفعه، قابلة للدحض والأخذ والرد ، ومن له تصحيح وتبصير فلا يشح به عنّا ، فكلنا نتعلّم ونتقوم.
ولقد لقينا في هذا الديوان هنات هينات مما يقع فيها أعاظم الشعراء فالقاضي الجرجاني عقد مبحثا عن أخطاء عروضية لأبي نواس وهو من هو، فلا يضير بشاعر نقد ، ولا سيما وقد بلغ من التجربة عتيا ، غير أن الحديث عن الشعر هو حديث معرفي يضعنا في مناقشة تفيد الشعر والشاعر وتعيد التبصر بتجربته، فنحن في مقام الاستفادة قبل الإفادة.
ولقد أجملنا الملاحظات الناقدة في النقاط التالية:
1-تشتت الصورة الاستعارية
2-عدم انسجام المعنى.
3- غياب الروابط المنطقية.
4-استسهال الكتابة الشعرية
وسنعرض في كل نقطة عددا من النماذج التي نعضد بها مدعانا.
النقطة الأولى : تشتت الصورة الاستعارية
يعاني الديوان من ظاهرة شتات الصورة الاستعارية ، ودعنا نقول أن هذه الظاهرة يعاني منها عدد من الشعراء ؛ فالتصوير الاستعاري ( ليس سوريالية مطلقة ) فلابد أن يشد أطراف الاستعارة رابط المعنى الخفي الذي يشد المتلقي إلى الدلالة ، وهذا ما يسمى عند القدماء بقرينة الاستعارة.
ولقد أشار أحد البلاغيين القدماء إلى أن «الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة ، فإن لم تكن له من قرينة امتنع صرفه إلى الاستعارة ،وصرفناه إلى حقيقته ، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة لفظية أو معنوية» وأعتقد أن المسألة واضحة، فحين نقول زيد يزأر ، فالزئير لزيد من لوازم الأسد ، لذا لدينا قرينة تقودنا لدلالة القوة لزيد ، فيجد المتلقي لذته في اصطياد الدلالة ويمضي مع الاستعارة متعطشا لما بعدها ، لكن في بعض استعارات الشاعر في هذا الديوان غياب لهذا التأصيل في بعض الموارد ، وتعقيد الاستعارة باستعارات متداخلة تغيب داخلها الروابط المحيلة للدلالة.
يقول متغزلا:
مواؤك خيمة الغابات
صوتك نغمة الجنه ( ص20)
وأنا أسأل هنا أين الصورة الفنية في شطر ( مواؤك خيمة الغابات ) صورة معقدة لا رابط بينها ولا قرائن تحيل لمعنى منطقي ، مواء وخيمة وقطط ما الجامع بينها ؟ ولا أعلم عن غيري إن كان له تأويل موضوعي .
ولا أعلم كذلك لماذا أهمل الشاعر التاء المربوطة هنا واستبدلها بالهاء ؟
وخذ مثالا آخر في استعارة أخرى ، يقول الشاعر :
سكبت بمائها كأسي
شربت الكأس من مائي (ص36)
ولا أدري ما الذي يود قوله الشاعر ؟ والبيت التالي لا ارتباط له بالصورة -لذا لم نورده- ، لكن بكل صراحة لم أجد معنى شاخصا جليا وإنما عبث لفظي.
يقول الشاعر:
كأن الشعر بستان
يرى في وجهك الممشى (ص31)
وليعذرنا أستاذنا الشاعر أين الجمال والدهشة حين يقول شاعر لمحبوبته يراك الشعر ( ممشى حديقة ) وما فضيلة ممشى الحديقة للحديقة فليس أجمل ما فيها.
ويقول الشاعر:
بحبل العطر تسحبني ( ص33)
هل العطر الرهيف الزاكي يُجر كالدواب بالحبل ، لماذا لم تقل خيطا ففي الخيط رهافة تليق بالعطر .
ويقول الشاعر:
سلاما يا التي تدري
بأن مواءها السفر (ص95)
(يا التي) مع تحفظي على الاستعمالات من هذا القبيل ، لكن لست متشددا لغويا ففي اللغة مساحة للتطور الزمني، لكن كيف (مواء الحبيبة السفر)، لو قال سفر لربما أولت المعنى، لكن بهذه الصياغة أراها استعارة بلا رابط ولا دلالة ولا إيحاء.
النقطة الثانية : عدم انسجام المعنى
يكثر في كتب التراث النقدي الحديث عن ائتلاف اللفظ والمعنى ، وإصابة المعنى ، ووصل الحد التنظيري إلى موازة اللفظ للمعنى وعدّ صحة المعاني من أناقة الكلام كما يقول السبكي: «ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه؛ حتى يكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصحّ معنى».
وأعتقد أن لو بسطنا القول فسنغدو كناقل التمر إلى هجر ، فالقارئ متزود بما يفوق كاتب المقال بما كُتب في هذا الموضوع ، لذا سنأخذ شواهد من الديوان ليتضح تفكك المعنى في بعض الموارد ، وعدم إصابته في موارد أخرى .
يقول الشاعر:
لماذا أنت لا أدري
وأعرف عنك ما يكفي
وأعرف أنك الدنيا
لشعري والذي يشفي
لماذا أنت لا جدوى
فلم ألق الذي يضفي
نلاحظ أن الشاعر كان ذائبا في محبوبته فهي الدنيا والشفاء -كما يقول -ثم دون مقدمات يقول لها : لا جدوى منك ولا أجد فيك ما يضفي ، وكأنه نسي أنها الدنيا !، فهذا تناقض بين المعنى السابق مع المعنى اللاحق.
ويقول الشاعر:
هبي أني زرعت الماء
في كفيّ من جهلي
وزدت بغابة الأسماء
اسما ليس من أهلي
هبي أني كتبت على
الرياح تفضلي قبلي (ص72)
وللأسف يحزنني أن أخبر القارئ أني أمام لم أجد معنى لأقبضه ، ما الذي يريد قوله الشاعر لا أعرف، لم يصلني شيء، وتنتهي المقطوعة بطلبات غير متناغمة، ولا يبين ما الجدوى منها، فما معنى زراعة الماء في كفه من جهله، فأين المفترض أن يزرع الماء حتى لا يتهم بالجهل ؟!.
ويقول الشاعر:
نهرت يديّ مذ همتا
إليك بسجدة الخسران
كأن دعاء أرملة
يخضب سورة الرحمن
وأنت قبيلة رحلت
بها لم يعرف الركبان
أتمنى إيجاد العلائق بين الأبيات الثالثة ، ولكن كيف دعاء الأرملة يخضب سورة الرحمن ، لو قال أن سورة الرحمن تخضب دعاء الأرملة لكان المعنى مقبولا ، لكن دعك من هذا ، كيف يقول محب لمحبوبته أنت كقبيلة ذهبت ولم يعبأ بها الركبان ، يعني غير ملفتة لأحد على مستوى الدلالة ، فهل هذا غزل أم هجاء ؟!
ويقول الشاعر:
سأكتب قصة الأفراح
قصة حبك الكبرى
وإنك آخر الغابات
ماء النهر والمجرى
لأحرث غابة أخرى (ص9)
هل الغابة تُحرث كأي أرض زراعية وتستصلح ؟- راجعوا نشأة الغابات -، كان الأولى لو قال بكل سهولة ( لأدخل غابة أخرى ) لكفى .
كما أن المعاني يجب أن ترتقي في حضرة المحبوب، وقد غاب ذلك عن الشاعر حين قال:
تضيق بصدرك الأنفاسُ
من تاريخك الواسعْ
وأعرف قلبك الحساس
من تفكيرك الرائع (ص30)
كيف يكون التاريخ واسع ؟ أعرف أن التاريخ عريقٌ وحافلٌ لكن كيف يتسع ويضيق ، لا بأس سنقول مترادفات ، لكن وهنا الإشكال ما علاقة سعة تاريخ المحبوبة بحبك لها ، ثم ما هذا المعنى الباهت : ( تفكيرك الرائع ) هذه الجملة نقولها في المدارس للطلاب المميزين ، وليس مكانها الشعر، بيد أن الشاعر يقول:
وإن لم تفهمي صوري
فقد لا يصدق المنبعْ
أنا في حالة للدرس
أكتب فارفعي الإصبع (39)
وأنا نيابة عن محبوبة الشاعر مضطر لأرفع إصبعي لأني يبدو لم أفهم بعض صور الشاعر!
النقطة الثالثة: ارتباك الروابط المنطقية
هناك روابط منطقية في الكلام الشعري ، لا تختلف كثيرا عن الكلام العادي ، بيد أن المنطق الشعري يتقبل المغالطات المبررة في السياق الشعري ، وهذا مبحث تنظيري ليس هذا مقامه لكن نكتفي بكلام الرافعي حيث يقول : « وهو إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة لا على طريقة المنطق فإن الفرق بين الطريقتين أن هذه المنطقية منها تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، ويراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب، إلزامًا بالعقل لا بالشعور، وبطبيعة السياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة، وتتسع لها المغالطة»
وسنعرض شواهد من خلالها يتضح المراد بالروابط المنطقية في الشعر.
يقول الشاعر:
براءة صيفك الماضي
شتاء في عيون البردْ
وأعرف أن للبستان
شهوة جائع للخد
ولست أصدق الشطرنج
حتى أرتضي بالنرد (ص21)
أريد أن أعرف فقط ما الرابط المقتضي بين تصديق الشطرنج لارتضاء النرد، وكلاهما لعبتان، من يعرف فليدلني ، وقبل أن يدلني فليوجد الرابط بين الأبيات
يقول الشاعر:
عذرت محبك الأولْ
ولمت محبك الثاني
لأن محبك العشرين
لم يحفل بأحزاني (ص44)
وأنا مرتبك ذهنيا كيف عذرت محبها الأول ولمت الثاني لماذا ما المبرر ؟! من أجل أن المحب العشرين لم يحفل بأحزانك ؟!.
لا أريد ربطا منطقيا عقلانيا فللشعر منطق مواز، لكن أريد رابطا مغالطا يتوسل بشيء من المنطق ليخادعني وأقبل بذلك في سياق شعري، وليس بهذه التلفيقات غير المعقولة لا في الكلام العادي ولا في الشعر.
النقطة الرابعة: استسهال الكتابة الشعرية يسمو الشعر بلفظه ومعناه عن الكلام العادي، حتى في تراكيبه فقد لاحظ ذلك النقاد القدامى وأسهبوا في الحديث عن سهولة اللفظ ووحشيه ، وكل ما يجعل الصياغة أكثر نصاعة، لأن الشعر ليس بالمعاني وحدها يتقوم، لذا فاللغة الشعر معنية بالصياغات التي تجعلها أكثر انسجاما للإيقاع، وقبولا مع المأنوس من الشعر.
ولعلنا نقف على بعض الاختراقات للصياغات الرصينة في هذا الديوان، ومنها
مثلا ما يقول الشاعر:
تواعدنا بأمريكا
وأيقظنا هوى مصرا
وحين سألت عن بيروت
قيل بأنها أدرى
دبي مدينة رحلت
لنزرع وجهة أخرى
انظر لصياغة البيت الثالث كيف جاءت دبي دون تمهيد مفاجئة، ثم رحلت دبي عمّن ، أنت من رحل عنها، وكيف تزرع وجهة أخرى؟ وألاحظ أن كلمة يزرع يستعملها الشاعر دون وعي شعري في بعض المواضع، وما هذا الزحام في الأماكن، لم أستسغ الصياغة بتاتا.
خذ هذه الصياغة مثلا:
وقلت وقلت يا أيوب
صبري كيف أكتمه
وقال وقال لا يجدي
كأني لا أكلمه
ولي أن أسجل ملاحظة أن التكرار هنا حشو لا يفيد في الدلالة شيئا.
ومن نماذج الاستسهال:
تقوّس ظهر هذا الشعر
مما تحمل الفكرة
وأعرف أنني أهواك
لست بحاجة الخبرة (ص15)
وتعبير ( لست بحاجة الخبرة ) مغرق في النثرية الفجة التي لا تسمو بالشعر والتي مكانها المقالات الصحفية.
خاتمة
وبعد أن تمعنا في ديوان ( سوانح ) للشاعر كريم معتوق نرى أن الشاعرأمتعنا بخياله ومجازاته ، وهو شاعر مميز ، بيد أن هذه الملاحظات هي آراء تتباين من شخص إلى آخر ، وكلي أمل أن نتجاوز جميعًا التكلف الذي يعتري الشعراء ، فانسيابية اللغة بين يدي الشاعر الماكن والتسامح في المجاز قد يقود إلى التهويم الذي لا ينجو منه شاعر مما يجعله يفرط في ارتكاب المجاز دون وعي ويستسهل الكتابة الشعرية ، مع التأكيد أن الإفراط في المنطقية قد تقتل روح الابتكار الشعري ، ولنكن بين ذلك قواما ، شاكرا كل من قرأ هذه الملاحظات على صبره إلى نهاية المقال .
____________
(الحسني ، ابن معصوم ، أنوار الربيع في أنواع البديع ، 57)،
السبكي ، بهاء الدين ، عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ، 340
الرافعي ، مصطفى ، تاريخ آداب العرب ، ج2 ، 157 -158
** **
د. يحيى عبدالهادي العبداللطيف - شاعر وأكاديمي سعودي