جلس النابغة الذبياني تحت قبة من أَدَم (جلد) في عكاظ، وهو المحكم في شعر العرب يومئذ، فدخل عليه حسان بن ثابت، وكان عنده الأعشى والخنساء، وقد أنشد الأعشى شعره وحكم له النابغة، ثم أنشدت الخنساء قصيدتها:
(قذى بعينك أم بالعين عوار)
إلى أن قالت:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
وإن صخرا لكافينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتو لنحار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير (كنية الأعشى) أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس.
يحصل نقاشات مختلفة المواضيع ودرجة الحدة والتوتر بين صديقي الدكتور ربيع جان وبيني، لكننا نحترم آراء بعضنا ونكمّل بعضنا؛ فهو قصير القامة (160) وأنا طويل (180). يجري الحديث بيننا منذ أيام عن مسابقة للشعر وفوز شخص ما بميدالية ذهبية فأرسل لي على الواتس يقول: لا أعرف عن مسابقات شعرية أو خطابية في الغرب.
لا تنس أيضا أن النص الأدبي هو الذي يصمد أمام اختبار الزمن وهو الذي يمكث في الأرض أما الزبد فيذهب جفاء.
قلت له: لكن يوجد مسابقات في الغرب.
رد يقول:
المسابقات (غير الأغاني والرقص في البرامج التلفزيونية) تعقد لطلاب المدارس في مجالات
Debate, Spelling, Math, Science المناظرة والتهجئة والرياضيات والعلوم
وتابع قائلًا:
Poetry reading is indeed common. However, it is more about interaction and recognition Rather than competition and trophies
قراءة الشعر أمر شائع بالفعل. ومع ذلك، فهو يتعلق أكثر بالتفاعل والتعرف بدلا من المنافسة والجوائز.
أذكر أنني حضرت أمسية في بريطانيا من تلك التي أشار لها الدكتور ربيع. كان الشعراء يقومون بطباعة نسخ من القصيدة التي يود أحدهم إلقاءها ثم توزع على الحاضرين ويسأل الشاعر/ة أحد الموجودين بقراءة القصيدة ثم يقوم هو أو هي بقراءتها، وبعدها يحصل نقاش حول القصيدة. يستطيع الحاضرون قراءة القصيدة قبل أن يقوم الشاعر/ة بقراءتها وهذه الطريقة تساعد القارئ على التركيز والفهم أكثر من الاستماع، على عكس ما يحدث عندنا حيث يجلس الشاعر أو الشعراء خلف طاولة ويقرأون قصائدهم والحاضرون يستمعون، وربما يتشتت تفكيرهم وتركيزهم لفترات فلا يتكون لديهم انطباع جيد عن القصيدة.
عندما كنا في بريطانيا.. ربيع وأنا أنشأ مع رئيسة القسم الذي يدرس به (اللغويات) International Poetry Circle جماعة/ دائرة الشعر العالمية. كان الأساس الأول أن نقرأ لشعراء عالميين لا تكون اللغة الإنجليزية لغتهم الأولى/ الأم، وأن تكون لهم قصائد مترجمة للإنجليزية. كنا نجتمع كل شهر من الساعة الخامسة مساءً لمدة ساعتين. قرأنا في أول لقاء لشاعرة روسية وتوالت بعد ذلك القراءات. تكونت المجموعة من 8 طلبة من مختلف الجنسيات والمشارب الثقافية، أضفى ذلك التنوع بعدًا على القراءات في تناولها لمواضيع القصائد، وأعطى للقراءات جمال الرؤية والعمق عند تناول قصيدة ما. عندما تتنوع الثقافات ينتج فكر يلقي الضوء على كنه الشعر ومفرداته، وكنت ألمس معاني مختلفة للقصيدة الواحدة لم أعهدها من قبل.
نحن نحكم على الشعر أو الكتابة أيا كان نوعها عندما يقوم أحدهم بقراءة قصيدة أو نص أدبي ويبدي رأيه ونقرأه وننسخه في أذهاننا ثم نردد ذلك الرأي سلبًا كان أو إيجابًا دون الرجوع إلى النص الأصلي، ولذا تكون بعض الآراء متطرفة ومتحيزة.
أقرأ وأسمع ما تسمى قصائد لشعراء معاصرين، ومما ألاحظه: الاهتمام بالألفاظ على حساب المعنى والصورة. كتبت موضوعًا أو دراسة بعنوان (يهيمون)، حاولت أن أبين الفرق بين الشعر والنظم، وبين الشاعر والنظام، وأستطيع أن أقول إن غالبية ما أقرأ وأسمع يندرج تحت النظم ولا علاقة له بالشعر. أيَّد ما ذهبت إليه الدكتور ربيع حيث كتب لي:
“قد ترى الإشارة لما يحدث من “تصنيع” للشعر، بمعنى تحويله إلى صنعة craft بينما هو في الواقع خطاب للعقل في واحدة من أعلى درجات الوعي الإنساني.
(Craft would eventually be outdated by technology) سوف تصبح الحرفة في نهاية المطاف قديمة بسبب التكنولوجيا
لعل في الخط العربي مثلا في ذلك. اليوم الحاسوب يجيد الصنعة.”
رجعت إلى قبة الأَدَم لأجد النابغة والأعشى والخنساء وقول النابغة للخنساء لولا أن الأعشى أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر من في السوق؛ حضر شيطاني وأخذ (ينكشني):
– لماذا لم يتراجع النابغة عن رأيه ويحكم للخنساء؟
– هل كان هناك تمييز بين الرجل والمرأة في حكم النابغة؟
– ما هي المعايير التي يضعها النابغة للحكم على جودة القصيدة وأن هذا الشاعر أفضل من ذاك؟ يشمل هذا السؤال لجان التحكيم الآن فيما يسمى مسابقات في الشعر.
– هل كان كل الشعراء يحضرون لسوق عكاظ ويتنافسون فيما بينهم؟
– لماذا توقف نشاط سوق عكاظ عندما جاء الإسلام؟
إن لكل شاعر (وليس النظاميين) أسلوب وصبغة وبصمة تختلف عن بقية الشعراء، وذلك ما يميز الشعراء عن بعضهم. ما يحصل في غالبية مسابقات الشعر أن الجمهور هو من يختار الفائز عن طريق التصويت برسائل نصية، ولا يعتمد ذلك على جودة القصائد أو تميزها.
يرى أبو هلال العسكري فيرى أن الخلق الأدبي في كل من الشعر والنثر لا يتحقق إلا بثلاث مراحل:
1ــ التهيؤ النفسي والذهني.
2ــ مثول المعاني والصور منثورة في الذهن بمرحلة التكوين.
3ــ التعبير عن هذه المعاني في عبارات يتم تثقيفها ومراجعتها والتغيير والتبديل فيها حتى يجيء الكلام سلسًا سهلًا.
أرى أن جوائز الأدب عمومًا يجب أن تقدم على أساس الأعمال الكاملة أو بعضا منها للكاتب (روائيًّا أو شاعرًا أو قاصًّا) لمن قدموا خدمات للإنسانية من خلال أعمالهم، ونبتعد عن المسابقات التي تظهر فيها الصنعة التي تقترن بالبديع والإفراط في استخدامه وتؤدي إلى التكلف على حساب المعنى والصورة الأهم في الشعر.
إن الشعر هو: مخاطبة العقل.
** **
- علي بن عويض الأزوري