خالد محمد الدوس
«نوافذ من علم الاجتماع الثقافي» زاوية نسلط الضوء فيها على العديد من المفاهيم والموضوعات والنظريات المرتبطة بهذا العلم الفتي الذي يدرس أثر الثقافة على الحياة الاجتماعية كحقل خصب يتفاعل مع التحولات الثقافية والتغيرات الاجتماعية والتحديات العولمية التي يشهدها عالمنا المعاصر.
نتناول اليوم موضوع «نظرية رأس المال الثقافي». هذه النظرية السوسيو-ثقافية تعود نشأتها على يد عالم الاجتماع الفرنسي الراحل «بيير بورديو» الذي أشار إلى مفهومها بأنها: مجموعة من الأصول والمنتجات الثقافية التي يمتلكها الفرد بما في ذلك المعرفة والمهارات اللغوية والفنية والخبرات والتعليم والقيم الثقافية وأي نوع آخر من الثقافة التي يمكن استخدامها لتحقيق المكانة الاجتماعية والاقتصادية.
وقد تناول هذه الفكرة على المستويين النظري والميداني، بالاعتماد على جهود امتدت لسنوات طويلة. ويعد مفهـوم رأس المال الثقافي من المفاهيم المحورية في فكر بيير بورديو، ولم يتعامل مع هذا المفهوم من خلال معناه التقليدي الاقتصادي فحسب - سواء كان هذا الرأس المال وراثياً أم مكتسباً - لكنه نظر إلى هذا المفهوم من خلال أنه مورد يمنح الفاعل قوة اجتماعية داخل الفضاء الاجتماعي، وقد يتجسد في أشكال غير مادية؛ مثال رأس المال الاجتماعي، ورأس المال الثقافي.
وعلى الرغم من أن العالم بيير بورديو كان أول من صاغ مفهوم رأس المال الثقافي؛ فإن فكرة الثقافة - التي تُمثل مصدراً من مصادر المكانة والقوة والهيمنة - كانت موجودة ومتأصلة في النظرية الاجتماعية، خاصةً الفكر المرتبط بالطبقات في أعمال كل من «ماكس فيبر» و»إميل دوركهايم».. غير أن استخدم مفهوم رأس المال الثقافي لدى بورديو ضمن أعماله البحثية عن فرنسا المعاصرة هو معرفة الفرد بالثقافة الجمالية المتميزة ذات المركز الاجتماعي الرفيع وإدراكه لعناصرها، مثال الفنون الرفيعة، والثقافة الأدبية، والقدرة اللغوية والمهارات المعرفية.
وبحسب رؤية «بيير بورديو» ينقسم رأس المال الثقافي إلى قسمين: رأس مال مكتسب على أساس المؤهل التعليمي وعدد سنوات الدراسة, ورأس مال ثقافي موروث من وضع العائلة وعلاقتها بالمجالات الثقافية المختلفة. وهذا الرأس المال يحقق أرباحا مباشرة، في المحل الأول داخل السوق التعليمية المدرسية، ولكنه يحقق تلك الأرباح في أماكن أخرى كذلك مثل سوق العمل، كما يحقق أيضا مكاسب التميز وهي مكاسب ناتجة بطريق تلقائيـة عـن ندرتها، وتوزيعها على نحو غير متساوي بين أفراد المجتمع.
كما بيّن العالم الفرنسي أن رأس المال الثقافي يتمثل في ثلاثة أشكال هي:
الأول: الحالة المادية المتحدة أو المجسّمة: وهي الحالة التي تتعلّق بترتيب وتنظيم العقل والجسد وهي تتطلب من الفرد بذل الوقت والجهد بهدف تكوين ومراكمة رأس المال الثقافي، ويبذل الفرد هنا الوقت والمجهود؛ وذلك من أجل الارتقاء الذهني والاستيعاب، ويبين هذا أن عملية اكتساب رأس المال الثقافي تُعد عملاً شخصياً أو تنمية ذاتية، ومجهوداً يبذله الشخص أو تكاليف شخصية يدفعها الفرد بنفسه لنفسه، وهذا الشكل من رأس المال الثقافي يُمثل ثروة خارجية، تتحول مع الوقت والجهد إلى جزء يتَّحد في الفرد ويكون هويته، ولا يُمكن نقل هذا الشكل سواء بالمنح، أو الوراثة، أو الشراء، أو المبادلة.
الثاني: وهو الحالة الموضوعية مثال البضائع الثقافية (الصور، الكتب، والقواميس... إلخ)، ويعني هذا أن رأس المال الثقافي يتمثل في الأشياء المادية، ولذلك فهو قابل للنقل من حيث ماديته، وهنا يُؤكد «بورديو» على وجود علاقة ما بين هذا الشكل من رأس المال الثقافي ورأس المال الاقتصادي؛ حيث إن ملكية الفرد لمثل هذه الأشياء المادية تتطلب منه أيضاً ملكية رصيد من رأس المال الاقتصادي، كما أن استخدام الفرد مثل هذه الأشياء المادية يتطلب منه امتلاك رصيد من رأس المال الثقافي، أو بالأحرى رأس مال ثقافي في شكله الأول، وهي الحالة المادية المتجسدة.
الثالث: وهي الحالة التنظيمية، وهي حالة التكوين العضوي، والتي تُقدم خصائص وسمات رأس المال الثقافي، كما في المؤهلات العلمية، وهذه الأخيرة هي إحدى الطرق لإثبات حقيقة امتلاك الفرد لرأس المال الثقافي. وهذه الحالة هي التي تفرق بين رأس المال الخاص بالتعليم الذاتي، ورأس المال الثقافي الخاص بالجماعة الحاكمة، والذي قد يتحصل على فوائد قليلة في سوق التبادل الاجتماعي، ورأس المال الثقافي المقرر أكاديمياً من خلال المؤهلات العلمية المُعترف بها رسمياً، وهذه الأخيرة هي التي تمنح لحائزيها قيمة مضمونة وشرعية، ويُشكل هذا جوهر الاختلاف ما بين المنافسة المعروفة رسمياً وشرعياً، وبين رأس المال الثقافي البسيط والذي يحتاج إلى إثبات ذاته باستمرار.
وفي هذا السياق يشير عالم الاجتماع السعودي أ. د. إبراهيم الجوير في رؤية (سوسيو-ثقافية) حول أهمية هذه النظرية في بناء الفكر الثقافي في المجتمع المعاصر قائلاً: أولا التأكيد على أهمية علم الاجتماع الثقافي، وقد تعامل عدد من علماء الاجتماع الغربيين في مرحلة التأسيس على أن الثقافة عامل تابع متغير وليس بصفتها عاملا مستقلا مؤثرا، ولهذا لابد من إعادة النظر واعتبار المتغير الثقافي والثقافة متغيرا مستقلا مؤثراً، وكذلك التعرف على الجوانب الداخلية لطبيعة الرموز البشرية في الثقافات.
ثانيا: الحديث عن رأس المال الثقافي يعد هذا المفهوم من المفاهيم الحديثة في علم الاجتماع وهو استعارة من معناه التقليدي في الاقتصاد إلى أعم من ذلك، سواء كان الرأسمال وراثيا أو مكتسبا وخاصة مع ذيوع استخدام هذا المفهوم بعد أن استخدمه العالم «بيير بورديو» ثم تلاه غيره في الدراسات الاجتماعية المعاصرة نظريا وتطبيقيا.
ويشير مفهوم رأس المال الثقافي إلى الموارد التي يحوزها الفعل الاجتماعي وعلاقته بالثقافة سواء كانت هذه الموارد موروثة من خلال كل ما يحوزه الفرد من عملية التنشئة الاجتماعية مثل الدين واللغة والعادات والمثل والاستعداد، أو المكتسبة من خلال التعليم والتدريب وغيره من المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل بالتالي أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في بناء شخصية الفرد.
وهذا يعني ما يؤّثر على التنمية والتربية وجميع مجالات الحياة ويمكن معرفة أثر ذلك على الأسرة والمجتمع بصورة عامة.