الثقافية - علي القحطاني:
تشغل د. فادية الشهري موقعًا مهمًا في مجال دراسات الترجمة والتبادل الثقافي، وتشغل حاليًا منصب رئيسة قسم الترجمة بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وقد أسهمت بأبحاثها المنشورة في بناء فهم أعمق لأثر الترجمة على الهوية والثقافة العربية.
استضافت صحيفة الجزيرة «الثقافية» الدكتورة فادية بنت عبدالله الشهري، الأكاديمية والباحثة المتخصصة في دراسات الترجمة والتبادل الثقافي، ورئيسة قسم الترجمة بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، في لقاء ألقت فيه الضوء على موضوع مهم يُثري النقاش حول دور الترجمة التاريخية في تشكيل الهوية الثقافية العربية، وتحديات نقل ثقافة المجتمع العربي عبر الترجمات الأجنبية، وقدمت رؤىً معمقة حول تأثير الترجمات العربية لكتب الرحالة الأوروبيين على الهوية الثقافية لسكان الجزيرة العربية، حيث أوضحت لـ«الثقافية» أن هذه الترجمات تُعد أرشفةً ووثائق تاريخية نادرة تُسهم في دراسة حياة المجتمعات السابقة وتُعزز الذاكرة الجماعية. كما ناقشت أبرز الأخطاء التي وقع فيها المترجمون في الماضي، مرجعةً السبب إلى غياب الوعي بأهمية المحتوى الثقافي، ولا سيما من قِبل المترجمين غير المحليين، مما أدى إلى تحريفات ثقافية أثرت في دقة نقل الهوية العربية.
وشدّدت الدكتورة فادية على أهمية مراجعة الترجمات التاريخية القديمة، مؤكدةً أن تصحيح الأخطاء السابقة يُعد ضرورة ملحة لتعزيز التوثيق الثقافي الدقيق للهوية السعودية. كما دعت إلى توطين أعمال الترجمة بحيث يشرف عليها مترجمون سعوديون، مع أهمية التنسيق بين الجهات الثقافية لضمان تطبيق معايير دقيقة تتماشى مع رؤية المملكة 2030.
الرحالة والترجمات القديمة
* ما تأثير الترجمات القديمة لكتب الرحالة الأجانب حول سكان الجزيرة العربية في الهوية الثقافية للمجتمع العربي، وكيف ساهمت في تشكيل الفهم العام لهذه الهوية؟
تُعد الترجمة العربية لكتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الجزيرة العربية في بدايات القرن العشرين ذات أهمية كبيرة في توثيق تاريخ وتراث وثقافة المملكة العربية السعودية. وتكمن أهمية هذه الكتب في كونها مصادر معلومات أرشيفية نادرة عن السكان في تلك الحقبة، حيث تحتوي على أوصافٍ مهمة لمدنهم وعاداتهم وتقاليدهم التي لم تُوثق في ذلك الوقت.
وعبر دراساتي لبعض هذه الوثائق وترجماتها إلى العربية ضمن دراسات تحليل وقياس الترجمة، لخصت ثلاثة أسباب تجعلنا نهتم بدراسة هذه المصادر والتعمق في تحليلها، وهي:
1. ندرة المصادر: عدم وجود مواد أرشيفية محلية توثق جزيرة العرب في بداية القرن العشرين بشكل علمي، مما يجعل العديد من كتب الرحلات الأوروبية وروايات المستكشفين بمثابة «كنز تاريخي لا يقدر بثمن للتاريخ العربي». حتى تلك الوثائق والكتب التي كتبها لاحقًا باحثون سعوديون وعرب استفادت بشكل كبير من الكتابات الغربية واستندت إليها بشكل شبه كامل. ونتيجة لذلك، لا تزال كتب الرحالة في النصف الأول من القرن العشرين هي الأهم لتأريخ تلك المنطقة، إذ تضمنت سيرًا ذاتية مفصلة لشخصيات، وروايات مستفيضة عن سكان الجزيرة العربية وثقافتهم الفريدة (ريلي، 2015م).
2 . التوثيق وبناء ذاكرة الجماعة: يعتمد توثيق وبناء ذاكرة الجماعة، خصوصًا للسكان الأصليين في المناطق غير المدنية / المتحضرة (مثل الجزيرة العربية قديمًا)، بشكل أساسي على كتب الرحالة.
3 . حساسية التوثيق في المراحل الأولى لتأسيس الدول الحديثة وأهمية ما يُنشر عنها: يقول العالم سميث (1999) في هذا الصدد: «إن توطين المجموعة الاجتماعية لبناء الدولة وتوحيدها يتم عبر تمييز الأعضاء الذين يشتركون فيها باسم محدد، وتراث مشترك، وذكريات تاريخية، ورموز عليا مشتركة، وتحقيق قدر من التضامن - أقله ضمن النخبة منهم -. كما أن الاهتمام بالذكريات المشتركة للأمم ذات الجذور الأصيلة، والتي غالبًا لا توثق نفسها – بالكتابة والتوثيق – أمرٌ في غاية الحساسية لبقاء الهوية الجماعية والحفاظ عليها؛ وهنا تلعب الروايات التاريخية دورًا رئيسًا في تحديد الهويات الوطنية، وذلك من خلال إعادة اكتشاف التراث العرقي التقليدي للأمم ونقله وتحليله وإحياء ذكراه».
أخطاء شائعة للمترجمين
ما أبرز الأخطاء الشائعة التي يرتكبها المترجمون عند نقل النصوص المرتبطة بالهوية الثقافية إلى العربية، وكيف تؤثر هذه الأخطاء في إدراك الهوية العربية وفهمها؟
أركز في دراساتي على الهوية السعودية تحديدًا، حيث إن معظم الأخطاء المرتكبة في ترجمة النصوص المتعلقة بالهوية السعودية تنتج عن عدم الوعي بأهمية أو حساسية المحتوى المنقول، وعدم إدراك التفاصيل الدقيقة للحمولات الثقافية والاجتماعية في النصوص. بالنسبة للمترجمين غير السعوديين الذين قاموا بترجمة الوثائق الخاصة بتاريخ المملكة العربية السعودية، كان الجهل هو العامل الرئيسي، مما أدى إلى الكثير من الحذف والإزالة لكم هائل من المعلومات المهمة. كما وجدنا تأثيرًا بالغًا لأيديولوجيا المترجم وخلفيته السياسية والثقافية، التي قد تدفعه لإجراء تغييرات في النص أو التحكم فيه لتوجيه القارئ بطرق معينة. وقد تم قياس جميع هذه الأخطاء كميًا ونوعيًا باستخدام نظريات التحليل والمقابلة اللغوية والدلالية بطرق علمية دقيقة، وذلك لتثبيت تكرارها وتأثيرها على النص الكامل وصوره.
قياس جودة الترجمة
كيف يمكن لأدوات قياس جودة الترجمة أن تساعد في كشف وتحليل التشويهات الناتجة عن الترجمة غير الدقيقة؟
ليس من السهل إيجاد الأنماط المتكررة وتحديد مستوياتها والكشف عن علاقات سببية لتفسير الأخطاء في الترجمات العربية لكتب الرحالة الأوروبيين الذين وثّقوا الجزيرة العربية في بدايات القرن العشرين، خصوصًا أن هذه الترجمات قديمة وعشوائية في بعض الأحيان. كما أن استراتيجيات الترجمة والعوامل التي أدت إلى التحولات الترجميّة يصعب قياسها أيضًا، نظرًا للعشوائية الشديدة في الترجمة وتعدد الجهات الممولة للمترجمين والمشرفة على إصدار وطباعة هذه الأعمال.
مع ذلك، قمت بقياس التحولات والعوامل المؤثرة وفقًا للنظريات الثقافية للتفسير ومراحل تحليل العلاقات لشيفون براونلي (2003)، ووجدت تفسيرات محددة يمكن قياسها بوضوح، من ضمنها:
• الجهل بالهوية الموصوفة ورموزها.
• الأيديولوجيا والمعتقدات الخاصة بالمترجم.
• جهات التمويل والرقابة والمراجعة.
• عوامل أخرى (مثل جودة عمليات الترجمة ومدى الاهتمام الشخصي بالمحتوى المترجم).
أهمية المراجعة العلمية
ما أهمية المراجعة العلمية لأعمال الترجمة القديمة، وكيف يمكن أن تسهم في تصحيح الصورة التاريخية عن الجزيرة العربية؟
إعادة النظر في الترجمات العربية لكتب تاريخ المملكة العربية السعودية أمر بالغ الأهمية بالفعل. وقد تناولت هذا الموضوع في عدد من المنصات وتحدثت في محاضراتي عن تأثير الترجمات «السيئة وغير الدقيقة» على النسيج التوثيقي للمملكة وصورة سكانها، وكذلك على التمثيلات الثقافية المتعلقة بثقافتنا وتراثنا وهويتنا.
الترجمة والأخطاء التاريخية
برأيك، كيف يمكن للمترجمين المعاصرين تجنب الوقوع في الأخطاء التاريخية التي ارتكبها المترجمون السابقون؟
أولاً، لا بد من التأكيد على أهمية «توطين أعمال الترجمة»، بحيث يتولى ترجمة النصوص الخاصة بهويتنا مترجمون من أبناء الوطن، وكذلك الإشراف والمراجعة من قِبل مختصين محليين. كما أن وجود تنسيق بين الجهات المعنية بالتاريخ والتوثيق والهوية والثقافة يُعد أمرًا مهمًا هنا. إن توحيد السياسات والمعايير الرقابية والفنية أثناء إنتاج وتداول وتصدير المحتوى الثقافي والتاريخي المترجم من وإلى العربية هو مطلب ملح، خصوصًا في ظل الانفتاح الحضاري والثقافي والمعرفي الذي تشهده المملكة العربية السعودية اليوم، ومع الجهود القيّمة التي تبذلها هذه الجهات - كلٌ على حدة - ضمن توجهات رؤية المملكة 2030 للحفاظ على الثقافة وتعزيزها وإيصال الصور المشرفة والأصيلة لهويتنا إلى العالم.
المترجم الأدبي
ما التحديات التي تواجه المترجم الأدبي في نقل الثقافات والهوية الخاصة بكل عمل أدبي؟
تُعد العلاقة بين الأدب والهوية علاقة وثيقة ومعقدة، حيث يلعب الأدب دورًا مهمًا في تشكيل الهوية الفردية والجماعية. وغالبًا ما يقع المترجم الأدبي في مأزق أثناء الترجمة بسبب تقاطعات هذه العلاقة. فالأعمال الأدبية، على سبيل المثال، تعكس القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد الخاصة بالثقافة التي ينتمي إليها الكاتب. ويمكن للأدب أن يكون وسيلة لنقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل، مما يساهم في بناء الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات.
ودور المترجم هنا أن ينقل كل هذه الحمولات بين ضفتي الثقافتين واللغتين ببراعة ودقة، وهذا ليس أمرًا سهلاً على الإطلاق. فترجمة الرموز الثقافية في النصوص الأدبية تتطلب فهمًا عميقًا للسياق الثقافي للنص الأصلي، إضافة إلى إبداع في إيجاد التعبيرات المناسبة التي تنقل المعنى والدلالات نفسها للقارئ بلغته المستهدفة.
الترجمة المناسبة
كيف يمكن اختيار الأعمال الأدبية المناسبة للترجمة لتكون ملائمة لتحقيق التوازن بين الحفاظ على جوهر النصوص الأصلية وإيصالها لجمهور مختلف ثقافيًا؟
ببساطة، يجب اختيار الأعمال الأدبية المرتبطة بهويتنا التي تُمثلنا بشكل حقيقي ومؤثر، ونقلها إلى العالم لكي نتواصل معه بصورة تعكس حقيقتنا. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال ترجمة أدبية متقنة.
تقنيات الترجمة
كيف ترين تأثير استخدام أحدث تقنيات الترجمة في تحسين جودة الترجمة؟
تساهم التقنيات الحديثة في تحسين جودة الترجمة من خلال تسهيل مهام المترجم، وتوفير الوقت، وإدارة مشاريعه، وتخزين نصوصه في ذاكرة خاصة، وغيرها من المزايا. كما أن الذكاء الاصطناعي قد أسهم في تسريع مهام الترجمة وتوفير الوقت والجهد، خاصة عند التعامل مع المواد الطارئة والمشاريع التي تحتوي على ملفات نصوص ضخمة.
الترجمة الآلية والذكاء الصناعي
إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى الاستغناء عن دور المترجم البشري؟ وكيف ترين تأثير تقنيات الترجمة الحديثة على تحسين جودة الترجمة؟
بالاعتماد على الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة يمكن القول إنه أصبح أداةً ذات فعالية عالية في تحقيق الترجمات السريعة والمتاحة على نطاق واسع. فقد شهدت هذه التقنيات تطورًا كبيرًا بفضل الذكاء الاصطناعي، مما ساعد على تحسين دقة الترجمة وسرعتها. ومع ذلك، فإنها لا تزال تفتقر إلى القدرة على التعامل مع الجوانب الثقافية واللغوية العميقة للنصوص، حيث يمكن أن تفشل في فهم السياق الكامل أو التعبير عن الدلالات الثقافية الدقيقة.
أما فيما يخص الاستغناء عن دور المترجم البشري، فمن غير المحتمل في الوقت الحالي أن تحل الترجمة الآلية محل المترجمين بشكل كامل. إذ يظل المترجم البشري عنصرًا أساسيًا لتقديم ترجمات تتسم بالدقة الثقافية واللغوية، خاصة في المجالات المتخصصة أو الأدبية حيث يكون التفاعل الإنساني ضروريًا لضمان جودة الترجمة.
فيما يتعلق بتأثير تقنيات الترجمة الحديثة على تحسين جودة الترجمة، فقد أسهمت هذه التقنيات في تسهيل عملية الترجمة ودعم المترجمين بأدوات متطورة لتحسين الإنتاجية والدقة. كما أن الجمع بين الترجمة البشرية والآلية يعزز من جودة الترجمة النهائية، حيث يمكن للمترجم البشري مراجعة وتدقيق النصوص التي أنتجتها الترجمة الآلية لضمان توافقها مع السياق والهدف من الترجمة.
** **
@ali_s_alq