شوقية بنت محمد الأنصاري
أطلقت السعودية في نهاية شهر فبراير الماضي مبادرة القدرات البشرية برعاية ملهمنا ولي العهد (حفظه الله) لترسم توصيات المؤتمر مؤشر نمو الشخصية القيادية من الطفولة، وأكدتها كتب التراث العربي فقد جاء أن معاوية بن أبي سفيان لما رأى بوادر الهزيمة يوم صفين عزم على الفرار فما أثار نخوته، وتجافى به عن ذلك المسلك سوى تذكره بيت عمرو بن الإطنابة:
«أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقال: علّموا أولادَكم الشِّعرَ فإنّي أدركتُ الخِلافةَ ونلتُ الرئاسةَ بأبياتِ ابن الاطنابة»
هذه الملامح الجوهرية للمهارات القيادية قادت فئة أسرية مجتمعية نخبوية لتجعل من ممارساتها الحوارية والثقافية ركيزة أسبوعية، والطفل هو القائد المحاور في مجلس يضم كبار الشخصيات والعلماء والأدباء، والشعر والنثر وفنون الأداء هي لغة المجلس بسحر البيان العربي، لتتشكّل منه بوادر تأسيس صالون الطفل الثقافي، فكان لمجلس رجل الأعمال الشيخ عبدالمحسن الراجحي -رعاه الله- الغراس الثمين في ابتكار لغة طفل رصين.
أصبحت ساعة يوم الجمعة مؤشر رصد إعلامي لتتبع الصوت الجمالي من صالون الطفل بديوانية الراجحي، فتأخذ هذه الرحلة دورها التنافسي مع حراك الصالونات الأدبية الرجالية والنسائية، والمؤسسية الحكومية والخاصة كالشريك الأدبي، لتصبح الصالونات واجهة ريادية مندمجة في قضايا المجتمع وتنمية اقتصادياته، وتشكيل رأيه العام، فتمنح الجيل الجرأة بقوله النزيه، والشجاعة برأيه الحصيف النبيه.
تأتي الصالونات الأدبية لتستكمل أهداف المؤسسات التربوية في السعودية العظمى، والكثير من الملتقيات الأدبية أشارت في قراءاتها النقدية عن دور الصالونات كرافد إثراء للحركة الثقافية، ومحفزة للمنافسة بالعلم، والثقافة، والحوار، والابتكار، بتكريم المثقفين والأدباء، لنجد في ديوانية الراجحي امتدادا انسانيا آخر تشكّل بدمج حديثي الدخول في الإسلام بحراك نهضتنا الثقافية، وتحفيز الصغار النجباء ليكونوا المنبر الرمزي لاستحضار ما خلده العظماء.
وإذا نظرنا للجانب الانساني فإن التنبيه لمثل هذه الممارسات الثقافية أخذ نصيبه من الرأي الحكيم، فاكتنز الأدب العربي استحضار الأبناء والطفل من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي، فقد ورد في المعاجم العربية: أبن الشَّيْء اقتفى أَثَره، أَبَنَ الرجلَ يأْبُنُه ويأْبِنُه أَبْناً اتَّهمَه وعابَه، الابناء جمع ابن، والاسم البنوة، وا صله من البناء.
يولد الأبناء بومضة في صفحة بيضاء جديدة من كتاب سيرة الأسرة المجيدة، فتتشكل صفاتهم من مدرستهم الأبوية الحياتية، وفي ظلالها تنمو المهارات الإبداعية والقيادية، قال المؤمن الكوفي:
يَنْشا الصغيرُ على ما كانَ والدُهُ إنّ العُرُوقَ عليها يَنْبُتُ الشجرُ
ونأسف اليوم لما آلت له اهتمامات الأسرة في الانفاق على المأكل والمشرب والترف؛ فالتربية تشمل الجانب النفسي والأخلاقي للطفل قبل الجانب المادي الترفيهي، وكلما كان الأهل قدوة بالبر بأهليهم، كلما أثمر جزاء الإحسان ببر أبنائهم لهم. قال الإمام على بن أبي طالب:
حرّض بنيك على الآداب في الصغر
كـيـما تقـرَّ بهم عيناك في الكبر
وإنـمـا مـثل الآداب تـجمـعهـا في
عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هـي الكنـوز التـي تـنـمـو ذخـائرها
وَلاَ يُـخافُ عـلـيها حَـادِثُ الغِـيَرِ
فتربية الأطفال بالمجلس الأسري ترتكز على منظومة القيم الدينية والمعرفية والاجتماعية، فجيل اليوم هم شباب المستقبل، لقيادة نهضة الأمّة، بهذه الصالونات تكفل الأسرة الضمان الفكري لأبنائها عن كل مفاسد أخلاقية، باتت تغزو المجتمع وخلقت جيلا لا يفقه سوى التنمر والضجر، فالأبناء نعمة الله وزينة الحياة، قال أحمد شوقي:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
هم الحياة وخلفاه ذليلا
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما
وبحسن تربية الزمان بديلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أمًّا تخلت أو أبًا مشغولا
كما أخذت رسائل الأبوية جانبا محركا لنبوغ الأبناء وتحفيز الوعي والقيادة، قال عبدالملك بن مروان (رحمه الله) لأولاده: (يا بَنِيَّ، عليكم بالأدب والعلم، فإن كنتم فقراء عِشْتُم، وإن كنتم أغنياءَ سُدْتُم، وإن كنتم سادةً فُقْتُم، واستفيدوا مِن الأدب ولو بكلمة واحدة، فمن لم يكتسبْ به مَالاً، اكتسبَ به جَمَالاً)، وجاء عن العباس بن عبدالمطلب لابنه عبدالله رضي الله عنهما: (يا بني، إن أمير المؤمنين- يعنى عمر بن الخطاب- يُدْنيك، فاحفظ عني ثلاثًا: لا تُفشينَّ له سِرًّا، ولا تغتابنَّ عنده أحدًا، ولا يطَّلِعَنَّ منك على كذبة).
ونرى عبر ديوانية الراجحي امتداد هذا الأثر بالوصايا، وتابعنا من منصة إكس وصفحة اليوتيوب دروسها الأسبوعية، ونستقرئ أهدافها المتنوعة:
1/ إبراز مواهب الطفولة وتحفيز النوابغ للمشاركة ومواجهة الجمهور بثقة ورشد.
2/ التنويع المعرفي للدروس المقدمة من الضيوف لعدة تخصصات دينية وعربية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وقانونية وفنية ونماذج علمية مبتكرة.
3/ المساواة والعدل في التكريم والحفاوة للمبدع العربي وغير العربي وحديثي الدخول في الإسلام.
4/ تعزيز لغة التواصل الاجتماعي بين عدة فئات طبقية اجتماعية بتنوع الأراء والحوار.
وتجدر الإشارة أيضا لمجلس الحوار الطفولي بمجلس شؤون الأسرة، ولقاءات هيئة الأدب والنشر للأطفال المثقفين وفق مؤشرات جودة الحياة، وهي أيضا ضمن اتجاهات صالون الراجحي للطفل المثقف، كمؤشر تحقيق لجودة حياته ومستقبل إبداعه، ويمكننا حصرها في عدة نقاط:
1/ تعزيز هوية اللغة العربية بين المشاركين، فيتنوع دور الطفل تارة بالقرآن أو الحديث أو إلقاء قصيدة وخطبة ارتجالية واعظة، ليعتاد لسانه على البيان الفصيح، وينافس بفلسفة المحاكاة أقرانه الذين تتفاوت أعمارهم من خمس سنوات وأكبر، وصفها ابن الجوزي -رحمه الله- بقوله: (مَن رُزِق ولدًا، فليجتهد معه...فإذا بلغ خمس سنين أخذه بحفظ العلم،...فإن الحفظ في الصغر كالنقش في حجر).
2/ تنمية ثقة الأطفال بقدراتهم، بتحفيز ومضة الإبداع والانبهار لتلك الدهشة التي تستثيرها الحلقات المعرفية المتجددة أمام أعينهم، وهي كفيلة لتقدير ذواتهم وتعهدهم لها بالنفع الواعي في حاضنة ثقافية آمنة، فيزداد يقينهم بركيزة العلم للحياة العزيزة الهانئة بالكرامة والقيم، حتى وإن كان فقيرا لا يحمل سوى الكتاب والقلم، كقول معروف الرصافي:
هي الاخلاقُ تنبتُ كالنبات
إذا سقيت بماء المكرماتِ
تقوم إذا تعهدها المُربي
على ساق الفضيلة مُثمِرات
وتسمو للمكارم باتساقٍ
كما اتسقت أنابيبُ القناة
3/ استدامة مظاهر القدوة وتجليات انسانيتها، حيث يكرر الطفل فيها اسبوعيا دعوة صادقة لأجداده، ويستشعرها من خلال لغة تقدير الضيوف لكرم والده وتكريم جلّاسه، وتحتضنه النظرة الحانية الأبوية حين يُحْيِي مجالسهم بصوت بلاغته العربية، وصفها المؤمل الكوفي بقوله:
يَنْشا الصغيرُ على ما كانَ والدُهُ
إنّ العُرُوقَ عليها يَنْبُتُ الشجرُ
في الحقيقة إن قراءة هذا المشهد الحضاري للطفل من مجلس الأسرة الواعي يقودنا للمشاركة في الرأي لدعم تحولات تثقيفية يبتهج بها الأطفال قبل الكبار، كأن يخصص الشيخ عبدالمحسن الراجحي في مجلسه لفتة تكريم للطلبة الموهوبين الحاصلين على جوائز محلية وعالمية، باستقطابهم لمجلسه العامر بالعلم ليكون محطة مجتمعية يبثّ الجيل فيه تجاربه البحثية، ويتشاركون مع أطفاله المعرفة فتتعمق لغة التواصل الإنساني بإثراء الموهبة للابتكار، كم أستشرف المستقبل الثقافي والقيادي للطفل المثقف من خلال:
- تخصيص جائزة تحت مظلة وزارة الثقافة للصالونات الثقافية التي احتضنت مواهب الطفولة وجعلت حضورها ضمن استدامة خطتها التثقيفية.
- تفعيل المشاركة التنموية لصالونات الطفل الثقافية في السعودية مع الجهات المختصة الحكومية من مدارس التعليم العام، ومجلس شئون الأسرة، وحقوق الانسان، بحضور نخب الأطفال البارعين على مستوى النطاق العالمي لعرض تجاربهم الثقافية المتنوعة.
ختاما إنني في كل جمعة من الاسبوع أتتبع ظهور النوابغ من أبناء وأحفاد مجلس الراجحي فتأخذني مخيلتي بين هؤلاء النجباء لأقبل رأسهم من جمال حضورهم بين الأدباء والعلماء، وكيف زهت لغتهم رغم قلة خبرتهم في مجلس يحفزهم للتفكير والمحاكاة الصادقة، فمن إبداع الطفولة نستحضر الفلسفة والحكمة لنرى من جمالها ما يلهمنا شكر النعمة: (من استرشد الجمال والعظمة في الطفولة؛ فلن تلهيه مناقب السلطة والبطولة).