د.أمل بنت محمد التميمي
تشرفت بنسخة موقعة من سمو الأميرة سميرة بنت عبد الله الفيصل الفرحان آل سعود للسيرة الغيرية (صراعي مع الفصام: قصة حقيقية لمعاناة مريض الفصام) التي ألفتها سمو الأميرة رواية عن أحد مستفيدي الجمعية (جمعية احتواء)، حيث نظمت جمعية «احتواء» السعودية للفصام، برعاية مؤسسة ورئيسة مجلس الإدارة الأميرة سميرة بنت عبد الله بن فيصل الفرحان آل سعود، ملتقى بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية. وذلك مساء الأربعاء 13 ربيع الثاني 1446 هـ الموافق 16 أكتوبر 2024 م، من الساعة 7:00 الى 9:00 مساء. المنعقد في الكلية التقنية بالرياض.
يقع الكتاب في 107 صفحة، وهو من ضمن إصدارات الجمعية السعودية للفصام (احتواء) الرياض: دار إرفاء للنشر والتوزيع، (1446هـ - 2024م) ومكتوب على الصفحة الداخلية أن ريع هذه (الرواية) لصالح الجمعية السعودية للفصام (احتواء). وقد اشترى العديد من الحضور الكتاب دعما للجمعية بمن فيهم سمو الأمير فيصل بن سلطان بن ناصر بن عبد العزيز.
وعلى صفحة الغلاف صورة لسيدة انشق وجهها إلى شقين، شق واضح الملامح وعليه ضياء ووضوح والشق الآخر بدا في الظلام، رغم أن الحكاية المضمنة في الداخل هي حكاية لشاب أو رجل، لذلك فإن الغلاف جاء ليقول بأن الإصابة بهذا المرض تشمل الذكور والإناث على حد سواء، وهذه الصورة في عتبة الغلاف تدل دلالة واضحة على ظلمة المعاناة الغامضة التي يعانيها المريض من جراء هذا المرض العقلي المزمن. فمرض الفصام هو مرض عقلي خطير يؤثر في طريقة تفكير الأشخاص وشعورهم وتصرفاتهم. وهو مزيج من الهلوسة والتوهم والتفكير والسلوك غير المنظم.
وتشمل الهلوسة رؤية أشياء أو سماع أصوات لا يلاحظها الآخرون.
وعلى ظهر الغلاف كتبت هذه العبارات «إن هذه الفئة من المجتمع تستحق الالتفاتة، ولا تقتصر على منح الدواء فالمشكلة أعمق. لأن المريض يحتاج إلى توعية فهو قد لا يدرك أنه مريض ليطلب العلاج كما أنه قد يخجل من زيارة الطبيب النفسي والأسرة تحتاج إلى توعية فهي قد تستر على مريضها لكيلا توصم فلا تسعى إلى معالجته. والمجتمع يحتاج إلى توعية ليتقبل ويتعلم كيفية التعامل مع هذه الفئة ليتسنى دمجهم واحترامهم وتمكينهم، وقد لا تكفي التوعية؛ فالأسر قد تكون معوزة وبحاجة إلى دعم وتدريب لتحسين جودة حياتهم، كما أن المريض يحتاج إلى تنمية مهاراته ودمجه في المجتمع»
وتشتمل محتويات الكتاب على المكونات التالية: (تقديم – تمهيد – لماذا لم تكن طفولة – تنمر – المعارك – الطوفان – الهاوية – تخبط - البحث عن الحقيقة – الأمل)
وقد جاء الكتاب بتقديم عنوانه (أيها الأصحاء امنحوا التاج للمرضى الذين لا يستطيعون رؤيته) لسمو الأميرة بوصفها رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للفصام (احتواء)، وللشيخ عبد العزيز بن سليمان الحسين بوصفه نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للفصام (احتواء).
وقد وجاء في التقديم أن الكتاب يستعرض «تفاصيل التحديات والمعاناة التي يمر بها المريض وتضيء دروب الأمل والتفاؤل في حياة المرضى وعائلاتهم» (ص10) …. فهل نعرف أسباب المرض؟ التي يسردها هذا الشاب بضمير المتكلم. معاناة تسبب بها أقرب المقربين له من أهله ومحيطه وذلك بالسخرية منه وتوجيه العبارات الجارحة المؤذية إليه. حيث يقول: «حينما تكون صغيرا تنظر إلى سلوك الكبار في السن والعلم والمنصب بإكبار، وحتى لو آلمك هذا السلوك تعتقد أنه هذه هي طبيعة الحياة وأن من حقهم أن يسلكوا هذا المسلك، وعندما تكبر قليلا وتبدأ في فهم الأمور تبدأ في التمرد، لأنك تبدأ في إدراك العدل والظلم والحق والباطل» (ص 11).
وجاء بجوار التمهيد عنوان (أنا أستمتع بالنقاهة لأنها الجزء الجميل في المرض) وتحته اسم جورج برنارد شو» (ص 11). واللغة التي كتب بها الكتاب لغة سهلة ولكنها عالية الجودة، والوصف الحسي والوجداني للشخصيات والأماكن يعكس شخصية مثقفة مدركة لأسباب المعاناة، ولا يكفي أن تقرأ الكتاب وحدك، بل لا بد أن تتشاركه مع مجموعة مثقفة لتوعية المجتمع حول من يتسبب للمريض بالمرض من أخ وابن عم وابن خال وابن جار ومعلم .. إلخ لتنشر الوعي حول هذا المرض النفسي الذي تكون من أهم أسبابه عوامل وراثية، ولكن المجتمع المحيط يكون له دور أساسي في انتكاسات خطيرة تلحق بالشخصية المريضة أو التعافي منها.
وهذا الكتاب نوع جديد من التأليف، وهو رائد في مجال السيرة، والكتاب في تصنيفي له عبارة عن (سيرة غيرية) تروي فيه سمو الأميرة معاناة شخصية لمريض الفصام من خلال المعايشة اليومية أو معرفة قريبة لهذه الشخصية والكتابة معها أو عنها. ولكن يبدو من أسلوب الكتابة أن المريض هو الكاتب وقد يكون هناك من سانده بالكتابة، ولكن لديه موهبة الكتابة الاحترافية وكتب بلغة أدبية مميزة تغري بعض النقاد بالتعليق عليها، ولا يمكن تصنيف هذا الكتا ب رواية من وجهة نظري، كما ورد في تقديم أ. عبد العزيز الحسين عندما قال : «نحتفي بفخر واعتزاز برواية متميزة تجسد رحلة مريض الفصام من ظلام المرض إلى نور الأمل. إنها قصة ..»، وقال أيضا: «هذه الرواية ليست مجرد قصة، بل هي شهادة حية على قوة الإرادة البشرية وقدرتها على التغلب على أصعب المحن.» (ص10). بينما يصنف صاحب المعاناة الكتاب أو تجربته فيه في التمهيد بقوله: «هذه ليست سيرة ذاتية فأنا لن أذكر فيها تفاصيل حياتي، ولكن سأذكر ما أعتقد أنه أوصلني إلى ما أنا فيه اليوم، ومع هذا فما كتبته هنا ليس إلا نقطة في بحر من معاناتي من المرض النفسي، ومع هذا فأنا في الوقت الراهن استمتع بالنقاهة لأنها الجزء الجميل في المرض كما قال جورج برنارد شو» (ص13).
بطل هذه القصة (المستفيد) وهو الأخ الأوسط بين ثلاثة أخوة، يسرد قصصا كثيرة حول تأثير الأخ الأكبر على شخصيته من خلال تكرار إهانته والتحقير منه، وفي المقابل لم يجد من ينصفه أمام هده التفرقة وعدم العدالة في المعاملة بينه وبين إخوته في الأسرة. والسارد البطل يلتفت إلى أدق التفاصيل التي يمكن أن تؤثر على نفسية الطفل في العشر السنوات الأولى من حياته، فهو لا يتحدث عن الرعاية الفسيولوجية التي يحتاجها طفل رضيع فحسب، لكن يسرد قصصا تفصيلية لسلسلة من أعمال العنف الذي تتلقاه نفسية طفل من الكبار وهو غير قادر على مقاومة العنف فيها، سواء من الأسرة القريبة، أو الأسرة الممتدة، أو أبناء الجيران أو المدرسة، وفي سلسلة القصص الواردة هذه يصف البطل شعوره بالمرارة والألم. ويذكر قاموسا من الألفاظ والعبارات المهينة المتكررة على مسامع هذا الطفل والتي كونت شخصية مريضة في المستقبل مثل: «هذا الغبي المخبول.. أنت لا يحبك أحد وخير لك أن تموت .. إلخ» ص20 - 22.
والسارد يذكر عوامل عديدة أسهمت في مرضه مرتبطة بمعاملة أسرته والجو المحيط به، ويورد كذاك قصصا وأساطير كانوا يحكونها على مسامعه مثل قصة (النباش) التي يعلق عليها في نهاية سردها قائلا: «انتهت القصة وسواء أكانت القصة حقيقية أم من نسج الخيال فقد أرعبتنا ولم يخفف من خوفنا كأطفال لكون الوحش قد مات في القصة فتأثير هذه القصة وأمثالها على الأطفال ليس مرهوناً بنهايتها، بل بكم الأدرنالين الذي تلقيه أثناء روايتها في دم الأطفال الأبرياء» (ص 20-21)
لعلنا نبحث عن تأثير الأدرنالين على الدم. الذي أوصل هذا المريض إلى التفكير في إنهاء حياته: «بلغ بي الألم جدا جعل هلاوسي تدعوني إلى إنهاء حياتي بأي طريقة فقد بدأت أكتب رسالة انتحار مطولة..» (ص102) ولكننا نريد أن نتعرف على دور مجلس إدارة احتواء في الاهتمام بهذه الفئة ليحتفلوا بإصدار أدبي يدعم هذه الفئة وأهلها.
يقول المستفيد: «بعد أن شرحت معاناتي للجمعية.. قصص النجاح أعطتني أملا» (ص105). ولم تقتصر برامج الجمعية على المرضى، بل تجاوزت ذلك إلى برامج تأهيلية لأسر المستفيدين حيث يقول: «تفهم أهلي مشكلتي وتغيرت معاملتهم لي» وكتب رسالة الحب التي بدأها برسالة الانتحار:
«إلى حبيبتي المستقبلية
حبيبتي، سوف أكتب عنك الكثير، سوف أقوله لك عندما تأتين وتعالجين روحي وقلبي من الهموم، حتى تروي صحراء الحنين وتزرعي قلبي وردا بعدما جف بسبب قلة أمطار الحب.
حبيبتي إليك هذا البوح الذي لن يرقى جماله أبدأ إلى جمال روحك، التي أحلم بها إنه لحن عزفته أنت على أوتار قلبي فنسجته مع خيوط حياتي البائسة لكي يشع فيها نور ولكي أرويه لك عندما ألقاك يوما، اسمعي بوحي وإلى اللقاء» (ص 103)
كان (المستفيد) الذي روى حكاية معاناته موجودا في الحفل، ولكنه شخصية مجهولة يحتفل بصمت، ويرقص على العرضة النجدية بصمت، ولكننا تعلمنا من أحرفه الرقص الحزين الذي يصنع من المعاناة فنا جميلا، ويثيرنا إلى رؤية الجمال، ويحرك مشاعرنا نحو فئة تعيش في العالم السلبي بسبب معاناة نجهلها ولا نعرف كيف نسهم في التوعية المجتمعية من هذا المرض.
ففي حفل تدشين (الكتاب) أقيم حفل للتعريف بمرض الفصام بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، قدمت لنا فبه المدير التنفيذي د منال صوان عرضا تعريفيا متكاملا عن عمل الجمعية بإحصائيات وأرقام، ويعكس هذا العرض رؤية الجمعية في السعي لتحقيق جودة حياة مرضى الفصام وأسرهم من خلال برامج وشراكات فاعلة وفرق عمل احترافية ونظام محوكم متميز وبيئات جاذبة. والطموح المستقبلي للجمعية في إقامة منتجع خاص لفترة نقاهة المريض. لقد أعجبت كثيرا بموقف سمو الأميرة رئيس مجلس الإدارة في مشاركتها فريقها كل التفاصيل وفي إعطاء اهتمامها لكل المساهمين في تنظيم ملتقى احتواء بمن فيهم الفرق المتطوعة، فكانت تسير وترحب بالجميع وتصافح الجميع برعاية أمومية مدهشة، وكأنها وردة تفوح عطرا وجمالا.
وفي كلمة الأستاذ عبد العزيز ال حسين نائب رئيس جمعية احتواء تعرفنا على نشاط الجمعية والفترة التاريخية التي امتدت لخ روج هذا الإنتاج الأدبي إلى النور وهو ما يقارب أربع سنوات قدمت الجمعية فيها الدعم اللوجستي لشاب مثقف ليكتب معاناته ومساعدته باللجنة الطبية والمساندة النفسية من (جمعية احتواء) ليخرج هذا الجنس الأدبي السيري الذي يكشف عن معاناة مريض الفصام التي من أبرزها (الشك). فهذه دعوة للنقاد والدارسين والمحللين لكي يأخذ هذا الكتاب حقه من القراءة والتحليل والاستفادة منه في جميع الحقول بما فيها حقل التربية والتوجيه، بل إنني أتمنى أن يدخل هذا الكتاب في المقررات الدراسية لتجنب القسوة والتنمر على فئة الأطفال، فغالبا ما يكون خلف الأسوار أناس يعانون ولا ندرك هذه المعاناة ولا نساعد في حلها. وقد تكون قصة الطالبة وتين التي ماتت منتحرة -رحمها الله- وجبر الله كسر أهلها من فئة تحتاج التوعية والعلاج والرعاية.
وفي كلمة الدكتور سعيد بن كدسه استشاري الطب النفسي وعضو مجلس إدارة جمعية الفصام الخيرية تحدث عن مرض الفصام بوصفه من الأمراض المزمنة التي يتعرض فيها المريض لانتكاسات واحباطات له ولأهله وللفريق الطبي الذي يعالجه. وعرف الحضور أعراض المرض والنسبة التي تصيب السعوديين وعمر المريض حينما تظهر عليه علامات المرض وغالبا في مرحلة المراهقة وتشكل الشخصية، كما شرح الدكتور كدسة أنواع علاجات الفصام التي تطورت من علاج يومي إلى إبر يمتد مفعولها إلى ستة أشهر.
وكشف استشاري الطب النفسي الدكتور سعيد بن كدسة كذلك عن أبرز أعراض مرض الفصام الهلاوس السمعية والبصرية والحسية والشم، بحيث يرى المريض ويسمع ويشم ويشعر بأن أحدا يمسه، وأشار إلى تطور العلم في تصوير مشاهد ما يراه المريض حتى أصبح هناك عالم افتراضي يمكنك تجربة ما يشعر به مريض الفصام من سماع، ورؤية وشم وإحساس. والمحزن في الموضوع أن مريض الفصام يسمع الهلاوس وكأن شخصين يتحدثان عنه أو معه، ومن هنا لا بد أن نتفاعل مع هذه الفئة ونعرف بماذا تشعر لنقدر أفعالها وهلاوسها، لأن مريض الفصام أكثر ما يعاني منه (الشك).
وفي الختام أشكر جمعية احتواء للجهود التطوعية الجبارة التي تقدمها لهذه الفئة من الناس الحساسة، ولقد عكس هذا الكتاب الذي أصدرته القدرة الفائقة على تصوير المشاعر بلغة فنية رائعة، وإنني أدعو في هذه المقالة التي أكتبها اليوم إلى تحويل كتاب (صراعي مع الفصام) إلى فيلم سينمائي لندخل إلى عالم المعاناة بالصورة والصوت والمشاعر، فلا ننسى الدور الإعلامي للدراما في معالجة مثل هذه القضايا وخصوصا بعد الكلام الذي سمعته من الدكتور الطبيب سعيد بن كردسة أن نسبة مرضى الفصام عالميا 1% من سكان العالم، وفي السعودية ما يقارب 250 ألف مصاب ما بين الرجال والنساء ولكن نسبة التعافي بين الرجال أعلى؛ لأنه يتكلم عن معاناته ويلجأ إلى طلب العلاج، بينما المرأة مازالت تكتم على المعاناة هي وأسرتها.
وبإذن الله، سيحدث كتاب (صراعي مع الفصام) نقلة نوعية في التوعية بالمرض وكيفية العلاج منه، وترتفع نسبة التعافي ومعالجة العوامل التي تضاعف من انتكاسات المريض.
** **
- جامعة الملك سعود