في روايته (الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد)، يتناول الكاتب الروائي أحمد فضل شبلول جوانب من سيرة الفنان التشكيلي المصري الراحل محمود سعيد، جاعلاً الحديث عنه بضمير الأنا؛ ليكون ذلك مناسبًا لزمن وطبيعة الحدث وطريقة التناول؛ حيث يبدأ بواقعةٍ تخيُّليَّة لمحمود سعيد؛ هي التحدث مع ملك الموت في ليلته الأخيرة قبل موته، ثم ينطلق عبر الذاكرة فيسرد أحداثًا واقعية، يضيف إليها شبلول من خياله الخصب أحداثًا وتأويلاتٍ بحسب السياقات والدواعي الفنية.
وفي صفحات هذه الرواية نجد عدة دلالات توضح رؤية محمود سعيد للفن التشكيلي وجمالياته وأدواته وفي مقدمتها الألوان، يقول: «ألم يعرف هؤلاء الأطباء أني قضيت حياتي بين الألوان، فكانت أكثر وفاء لي من البشر؟!»، ويستطرد في هذا السياق فيقول: «وكانت كفِّي بيضاء على الجميع»، فهو يتخذ من الألوان رمزًا ودلالة.
وبينما هو في ساعة تأهُّبِه للموت في ذكرى يوم مولده كما أنبأته العرافة؛ يدور في باله أن يرسم الموت باللون الأزرق الذي يفضِّله على سائر الألوان، وإن كانت كلها محبَّبة إليه؛ لِما لها من طبيعة خاصة، عبَّر عنها بقوله: «وإذا كان فيثاغورس يرى أن العدد يعتبر بمثابة سرِّ الكون؛ فأنا أعتقد أن اللون هو سر الكون الأزلي».
والفنان التشكيلي لديه خبرة بخصائص الألوان؛ انطلاقًا من طبيعة عمله، لذلك حرص الكاتب على إبراز هذه المسألة عند محمود سعيد، فقال واصفًا هذه المهنة: «إذا لم يكن الإنسان موهوبًا فيها؛ ضاعت كل الجهود المبذولة، واختلطت الألوان مع الألوان، واندمجت الأشكال مع الأشكال، وضاعت الخطوط والأضواء والظِّلال»، ثم قال جامعًا بين الألوان وبين الموسيقى: «لقد اقتنعت الآن أن اللون والموسيقى يتشابهان في عالم الإنسان، وليت كل جبار عتيد وكل طاغية عنيد؛ يشاهد اللوحات والألوان، ويستمع إلى الموسيقى والألحان؛ ليتحول من كيان إلى كيان، ويعيش حالة النشوة والإحساس الراقي، ويتفجر فيه نبع المحبة والحنان»، فقد زاوَجَ بين المؤثرات البصرية وهي الألوان، وبين المؤثرات السمعية وهي الموسيقى، ثم أكد أهمية هذه المؤثرات للنفس البشرية.
وفي سياق دلالة الألوان وعلاقتها بالطبائع ودورها في الكشف عن نوع المزاجية والنمط؛ فإنه حين وصف نفسه وهو يرى بعينيه سرقة لوحات ومقتنيات مركزه وهو عاجز عن الدفاع؛ قال: «لا أملك أن أفعل شيئًا، أنا خائن وضعيف وجبان، أنا لون باهت، لا؛ أنا بلا ألوان»، وفي هذا الوصف تأكيد لأهمية الألوان ومدلولاتها الرمزية عنده، وفي إطار هذا التأكيد يقول في موضع آخر وهو يقترب من الموت: «أنا التائه في زحمة الألوان التي كنت أسُوسُها في جميع لوحاتي، تتصارع داخلي، وتتشابك وهي في طريقها إلى الموت».
إن الألوان واللوحات الفنية هي مرآة الحياة التي ينظر من خلالها محمود سعيد إلى الدنيا، ويستخدمها أداة لتعبيره كما يُفهَم من قوله «في الوقت الذي كان «بيكاسو» يرسم في بارس لوحته الشهيرة كردِّ فعلٍ على الهجوم النازي على القرية الإسبانية «جورنيكا» وتحطيمها بالقنابل، ويرسم «سلفادرو دالي» لوحته «أشلاء الحرب العالمية»؛ كنت أفكر في الإسكندرية كيف أمنح لوحتي «المدينة» السعادة والجمال والخلود والسلام»، وهذه الكلمات توضح حبه لمدينته الإسكندرية، يرسم لها صورة الأمن والسلام، ليس مع أهلها فقط؛ بل هي مأوى لمن يبحث عن الأمان، لذلك يقول مخاطبًا إياها: «افتحي بحرك للمتعَبِين وللضائعين وللهاربين من الموت»، ثم يكشف سرَّ هذه النعم التي ترفل فيها الإسكندرية، ذلك السر الذي إذا غاب عنها تبدلت صورتها، فقال يرثي حالها: «يا من كنت ترفلين في ثياب العز والألوان، وتضحكين بالألوان، وتَسْبحين في الألوان؛ ما لي أراك شاحبة وشائخة الآن؟!! لا أرى إلا الضباب والرماديات»، إنه يؤكد أنَّ سرَّ السعادة والأمان والسلام يكمن في «الألوان»، تلك الألوان التي يتمسك بها إلى لحظة الموت فيقول: «ولن أغادر الحياة أقل ألوانًا مما كنت عليه».
وفي إطار ثنائية الإيقاع السمعي والبصري يصف في أكثر من موضعٍ صوت الفتاة اليونانية «أنيسكا» بالصوت البنفسجي، ثم يقول: «قررت أن أرسمها ترفل في ثوب بنفسجي مثل صوتها»، ثم يعود مجددًا إلى المزاوجة بين الألوان وبين الموسيقى فيقول: «تتحول الألوان، تتغير الألوان، تتداخل الألوان، تتموسق الألوان، أنيسكا تصبح جسرًا من موسيقى الألوان، يمتد من الإسكندرية حتى اليونان»، وفي هذا السياق يكشف عن فلسفته تجاه العالم، تلك الفلسفة المنبثقة من حبه للألوان والرسم واللوحات، يقول كاشفًا عن فلسفته: «أخشى أن أتقدم في فهم العالم دون أن يفهمني العالم؛ هذا هو الوجع الأصعب من وجع الموت»، وكما يُفهَم من أحداث الرواية والجُمل الحوارية فإنَّ أدوات محمود سعيد في فهم العالم تقوم على ازدواجية الإيقاع السمعي والبصري، وهو يريد أن يفهمه العالم كما يفهمه، يريد ممَّن يطالع لوحاته أن يرى جمالها ويدرك سرَّ ألوانها.
إنه فنان يَنشُد الجمال، ويحب أن يرسم الجمال،a وأن تكون سمة لوحاته الجمال، لذلك قال عن موقفه من رسم لوحات حفل افتتاح قناة السويس: «كنت أعمل فيها بين الحين والآخر ولا تريد أن تنتهي، أرادوها من الحجم الكبير الذي لا أحبذه في لوحاتي، كنت متلكئًا في إنجازها، وكنت أخشى أن يكون حَمْلُها كاذبًا فلا تلد فنًّا، أو تلد جنينًا مشوهًا، تتراكم عليه الخطوط والألوان بلا هدف، فأخجل منه ومن انتسابه إليَّ»، فهو يحرص على جمال لوحاته ويعلم أن ذلك يتطلب البعد عن العوامل التي يمكن أن تقلِّل من هذا الجمال.
وحين يصور شبلول، على لسان محمود سعيد، لحظات موته؛ نجد في السياق ذِكر الألوان: «صراع بين الأرض والسماء على حمل جسدي، يظهر «مَبْهَج» -وهو اسم اختاره للموت- ليفضَّ هذا الصراع في ثوانٍ، يُعِيد التوازن إلى عالم الألوان»، يتكلم عن الموت لكنه استحضر ذِكر الألوان لأنه يقيس بها كل شيء، ومسألة تَوازن الألوان تندرج تحت مبادئ محمود سعيد وآلياته في الفن التشكيلي، ونلمس ذلك واضحًا فيما ذكره شبلول على لسانه؛ أنه استلهم لوحة «بنات بحري» من قول أمين الريحاني «رأيت نسوة ثلاثًا يتطلعن إلى المشرق»، ثم قال محمود سعيد بعد ذلك: «وقد شغلني اللون الأرجواني الذي تحدث عنه الريحاني، فقررت أن أمنحه لإحدى الفتيات الثلاث، ربما لو منحته لفتاة المنتصف لكان أَوْفَق؛ لأنه لون يخطف البصر»، فهو يحرص على استخدام كل لون للعنصر الذي يناسبه من عناصر اللوحة التي يرسمها.
وقد تناولت هذه الرواية عدة أحداث وشخصيات أوردها أحمد فضل شبلول على لسان محمود سعيد، في سياق ذكرياته التي لاحت له في ليلته الأخيرة قبل موته، بعضها سياسي وبعضها فني وبعضها ضاربٌ بعمقه في التاريخ؛ مثل استحضار ذِكر كليو باترا وإيزيس، وقد استطاع أحمد فضل شبلول أن يتسلَّل عَبْرَ بعض هذه السياقات ويُظهر شخصيته الخاصة، بشكلٍ يبدو تلقائيًّا ومتَّزنًا في تيَّار السياق العام؛ مثل ذِكر إحدى رواياته التي تحمل عنوان «الماء العاشق»، وكذلك أدلى شبلول بدلوه وعبَّر عن رؤيته في معالجة بعض المسائل التي تناولها على لسان محمود سعيد، وقد جاء ذلك كله لصالح المضمون العام لرواية «الليلة الأخيرة»، التي تُرجمت إلى عدة لغات؛ منها: الإنجليزية والفرنسية.
** **
حسن الحضري - شاعر وكاتب مصري