سهم بن ضاوي الدعجاني
تعود علاقتي بأستاذي الشيخ حمد الجاسر إلى عام 1414هـ، عندما كنت أحضر ضحويته الشهيرة بمنزله «دارة العرب» بحي الورود بمدينة الرياض، والتي يقول عنها: «من هنا رأيت تخصيص ضحوية يوم الخميس لكي أحظى وأسعد بمن يزورني فيها وجلهم -ولله الحمد- من إخواني وأحبابي، ومن تربطني بهم روابط قوية من الحب والإخاء والتوافق في الأهداف وفي الاتجاهات»، في إحدى ضحويات الشيخ حمد الحاسر في شهر رجب لعام 1420هـ، تحدث عن علاقته بالدكتور طه حسين موضحا الموقف تجاه آرائه التي ما زال صداها يتردد بين المثقفين قائلا: لقد زرته في منزله بمصر مع أحد الأخوة وقد وجدناه متأثرا لانقطاع الكهرباء عن منزله وقت زيارتنا له فقال الشيخ حمد الجاسر مخاطبا عميد الأدب في زمانه الدكتور طه حسين: نحن أبناء الصحراء نعيش بعيدا عن الكهرباء أغلب أوقاتنا لا نتأثر بذلك. فقال الدكتور طه حسين موضحا سبب انزعاجه واضطرابه كنت استمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت عبر المذياع كعادتي في مثل هذا الوقت من كل يوم فبادره الشيخ الجاسر بسؤال يقول فيه: ما رأي الدكتور طه حسين في كتابه المشهور في طبعته الأولى؟ فقال الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي: «ذاك من شطحات الشباب كشطحات الصوفية»، في مثل هذا الطقس العلمي والنقاشات الفكرية العميقة عرفت معالي الشيخ عبدالعزيز السالم أمين عام مجلس الوزراء آنذاك ورجل الدولة والمثقف والكاتب المعروف في صحيفة الرياض
ضحوية الجاسر وخميسيته
استمر الشيخ عبدالعزيز السالم رغم مسؤولياته الكبيرة فهو أمين عام مجلس الوزراء، ويوم الخميس إجازة أسبوعية، في حضوره لضحوية الجاسر في حياته وبعد مماته، وفاء وتقديرا لأستاذه علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر وقد لمست مدى التقدير والوفاء بينه وبين شيخه علامة الجزيرة، فقد كان رحمه الله زينة المجلس بجلال صمته وتعليقاته المختصرة بلغة بليغة وصوت هادئ يذكرك بالعلماء والمثقفين الكبار
الكتابة الأسبوعية.
رغم مسؤولياته الكبيرة، استمر كاتبا بشكل أسبوعي في صحيفة الرياض تحت اسمه المستعار المعروف لأعوام «مسلم بن عبدالله المسلم»، وهذا الاسم يقول عن سبب اختياره له في كتابه «ذكريات مما وعته الذاكرة»: «وهو اسم له دلالة في حقيقته ويحمل الاسم الثلاثي للكاتب الذي يتوارى خلفه، فكان الاختيار لاسم: (مسلم بن عبدالله المسلم) وعرفت بهذا الاسم، واشتقاقه من واقع حقيقي فأنا بحمد الله مسلم، ووالدي اسمه عبدالله، واللقب: المسلم مشتق من هويتي الإسلامية، وفي هذا المضمار، فهو اسم مكتمل العناصر التي توحي بمصداقيته» وقد كانت مقالاته الأسبوعية في صفحة «حروف وأفكار» تتسم بالعمق الثقافي والأسلوب الراقي الذي يذكرنا بعمالقة الأدب والفكر، وكان – رحمه الله - يتناول قضايا تهم المجتمع ويعالجها بحكمته وتجربته في الحياة، حتى كتب أستاذنا الدكتور مرزوق بن تنباك ذات يوم مقالا اكتشفنا من خلاله أن الكاتب الكبير والقدير مسلم بن عبدالله المسلم الذي ظل يكتب لأعوام ما هو إلا رجل الدولة المعروف معالي الأستاذ عبدالعزيز السالم، كما كان له مشاركاته المميزة في «مجهر الآراء» في «ثقافة اليوم» بصحيفة الرياض والذي كان يحرره الزميل الشاعر الدكتور نايف الرشدان في عام 1414هـ، حيث شارك الشيخ عبدالعزيز السالم بمقالة نقدية عن الأستاذ حسين سرحان تحت اسمه المستعار مسلم بن عبدالله المسلم ومما كتبه تحت عنوان «كلاسيكي الصياغة، تراثي النزعة»: حيث يقول عن الشاعر حسين سرحان «... وشاعرنا السرحان – وهو معدود في مقدمة شعراء الأصالة بهذه البلاد بشهادة صادقة ثقف نفسه تثقيفا ذاتيا ككل أفراد جيله واستحق مكانته التي صنف بها عن جدارة، وهو إلى جانب أنه شاعر مطبوع فهو كاتب ساخر، وقد يؤخذ عليه -كما يؤخذ على أكثر أفراد جيله – أنه بالنسبة للمساحة الزمنية التي عاشها مقل في شعره ونثره. لكنه مجيد في أكثر هذا القليل.. وهو في شعره يختلف عنه في نثره، فهو في نثره سهل مستساغ يمزجه بالسخرية المتأصلة في طبعه فيشد القارئ إليه ويجاري سمات العصر. أما في شعره فهو كلاسيكي الصياغة تراثي النزعة لا يميل إلى السهولة، بل تستهويه الألفاظ القاموسية»..
مجلة العرب
قبل 17 سنة في العدد الخاص بمناسبة بلوغ مجلة «العرب» السنة الأربعين، كتب عبدالعزيز السالم مقالا يفوح وفاء لعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بعنوان: «ابن القرية الصغيرة الذي أصبح علامة الجزيرة» مما قاله في حق الجاسر: «وكان لا يرضى أن يلقب بعلامة الجزيرة إمعانا منه في التواضع، ولكننا نراه بحجمه العلمي الكبير مؤهلا في الواقع لهذا اللقب، وإذا لم يكن هو المؤهل للقب علامة الجزيرة فمن يكون؟ وهو الذي خدم تراثها جغرافيا وتاريخيا وآثارا، وهو الذي طاف بها منطقة منطقة، وجاس خلالها، وحقق أماكنها وأبرز معالمها، ورصد ما ذكر عنها في القديم والحديث، وأصدر عنها المعاجم الكبيرة التي أصبحت بمنزلة معالم بارزة لهذه الجزيرة العربية التي تمثل مصدر الإسلام ومهد العروبة»..
مؤسسة الجاسر الثقافية
تعود بي الذاكرة إلى عام 1421هـ، عندما بارك خادم الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله - إبان توليه إمارة منطقة الرياض، فكرة تأسيس مؤسسة حمد الجاسر الثقافية؛ وبعد موافقته على تشريف مؤسسة حمد الجاسر الثقافية برئاسته الفخرية، تقديرا لمآثر علامة الجزيرة، تم ترشيح معالي الشيخ عبدالعزيز السالم – رحمه الله - لعضوية مجلس مؤسسة حمد الجاسر الثقافية في دورته الأولى عام 1424هـ، واستمرت مسيرته في العطاء من خلال هذه المؤسسة التي أحب صاحبها الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، وإبان رئاستي لمركز حمد الجاسر الثقافي وجدته رحمه الله يحرص على حضور اجتماعات مجلس الأمناء والخميسية كما وجدت منه شخصيا التوجيه والدعم المستمر..
جلسته الأسبوعية
كان رحمه الله يستقبل محبيه؛ في جلسته الأسبوعية يوم الجمعة بعد المغرب بدارته العامرة في حي الملز بمدينة الرياض؛ وقد أشرت إليها في كتابي «الصالونات الأدبية في المملكة العربية السعودية» وحضرتها وكان من روادها أستاذنا الدكتور مرزوق بن تنباك، وغيره من مثقفي الرياض، وكان معاليه مرجعا ثقافيا بمعنى الكلمة.
وأخيرا
رحل عن دنيانا رجل دولة من الطراز الأول، وقبل ذلك مثقف كبير وكاتب عظيم وتمت الصلاة عليه بعد صلاة عصر يوم الاثنين الماضي في جامع الملك خالد بأم الحمام، ودفن في عرقة، رحمه الله رحمة واسعة فقد خدم وطنه من خلال المناصب والمسؤوليات التي تولاها وترك إرثا ثقافيا عريضا، ستذكره الأجيال القادمة، بل سيكون نتاجه الفكري علامة فارقة في المكتبة السعودية ومسيرته العطرة ستكون بصمة في ذاكرة الوطن.