أقف على مشارف السنة السادسة، السنة الخامسة انصرمت أو تكاد. الأمل يتضاءل والأفق يزداد انسدادًا بينما أغرق في الظلام أكثر مع مرور كل يوم، بعد سنوات من الحياة والضجيج وكثافة الحضور أجد نفسي وحيدًا بلا رحمة، الوحدة مؤلمة، تبدأ بنزعة ساذجة للاعتزال والبعد عن الناس وتنتهي بالخراب والوحشة والبوم الناعق في الفضاء الأسود.
شجرة الخوف تستطيل وتتمدد بعد أن كانت بذرة لا ترى، وبينما أنهمك في الركض باتجاه الأمام. ألتفت وألمح الماضي يطلب مني التوقف فأريد ذلك بشدة ولا أستطيع. الطفل النابض بالحياة، المراهق النابه المتحفز. الشاب الأسمر ذو القامة الفارعة والعينين السوداوين والابتسامة الواسعة، ليس لهم أي أثر، المكان فارغ إلا من روح بائسة ملولة وجسد منهك بلا سبب واضح.
أعاود الالتفات إلى الخلف فتختلف قدماي وأتعثر، تراودني فكرة السقوط لكن بقايا اعتزاز قديم تدفعني للمضي قدمًا، أتعثر مرة أخرى، أتلمس اعتزازي فأجده قد سبقني بالسقوط أسقط، تقع مؤخرة هامتي على نتوء حجري مدبب فيثعب دم كثيف، أستلقي على أرض قاسية تتناثر عليها صخور بأحجام متنوعة، تختلط دماء رأسي بدماء كتفي وظهري، أشعر بحرارة الدم على وجهي فألعق ما تيسر منه وأقهقه. أرغب بالوقوف أو الاعتدال على الأقل لكن جوارحي لا تستجيب. يبدو أنني أصبت بالشلل ماذا جرى؟ أين أنا؟ وكيف انتهيت مستلقيًا نازفًا في مكان مجهول ومظلم؟
أبحث عن نقطة تحول ما، أتحلى بالهدوء كما يفترض في موقف كهذا، أقرر التفكير بطريقة منظمة ومنطقية، أستجمع ما تبقى من قواي وأسحب نفسًا عميقًا ثم أزفر مطوًّلًا، أكرر العملية مرة ومرتين وثلاث، أغمض عيني أتلمس منعطفات سيرتي، أين كنت اليوم؟ وإلى أين أتجه؟ ومع كل سؤال بلا إجابة أنتقل إلى آخر ثم آخر إلى أن وجدت نفسي أطرح سؤالًا مضحكًا: من أنا؟ ولمن يعود هذا الجسد الممدد على الأرض الحجرية القاسية؟
تتسلل إلى أذني أصوات بعيدة لا تلبث أن تقترب حتى تتوقف عند جسدي مباشرة. أحاول الالتفات فلا أستطيع، أصبر وأنتظر، تمتد يد خلف ظهري فأرفضها بغضب لا يتجاوز سقف حنجرتي، يقف صاحب أحد الأصوات أمامي فأتبين رجلًا قصيرًا مملوء الجسم بأنف مكور وعين أصغر من أختها بكثير، يميل وجهه قليلًا ليفتح زاوية الرؤية لعينه الكبيرة فتبين سوداء بلا بياض، أضحك لكن فمي لا يستجيب، يقترب السواد أو أقترب أنا. لا يمكنني الجزم، يجتاحني دوار عنيف وأتقيأ ماء غليظًا وأستسلم للمجهول.
أفتح عيني على سقف قديم وصوت يلهج بالدعاء والتهليل. رائحة سدر وكافور معها رائحة فضلات وبول وعرق. ترتفع يد بأبريق أسود متوسط الحجم وتدلقه على رأسي نزولًا إلى القدمين ويدٌ أخرى تدعك جسدي بطريقة دائرية لطيفة. تقلبني اليدان إلى شقي الأيسر وتكرر العملية ثم تعيدني إلى وضعي الأول. أود طرح بعض الأسئلة لكن اليدين تعبئُ أذناي وفمي بالقطن وتلقي جسدي في قماش أبيض. تشده ثم تسحبه وتلقيه على طاولة حديدية قديمة في مدخل المكان.
** **
- د.محمد بن خليفة الخزّي