في قرية تحيطها الكثبان الرملية من كل جانب تدعى «معقرة» في محافظة الزلفي ولد الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي المعروف على نطاق واسع بأبي يعرب. كان التواصل بين هذه القرية - شأنها في ذلك شأن بقية القرى في تلك المناطق - والعالم محدوداً، فكان مجهولاً إلى حدٍّ كبير كل ما يقع خلف تلك الكثبان الرملية. هذا الطفل الذي عندما شاهد السيارة لأول مرة تنزل من أعلى أحد الكثبان الرملية في اتجاه قريتهم صاح على أقرانه مطالباً إياهم بالابتعاد عن هذا المخلوق العجيب مخافة أن يأكلهم، امتطى هو ذاته بعد حين سيارة (لوري) في اتجاه مدينة الرياض ليبدأ بالتعرّف على عالم كل ما فيه جديد عليه، وليبدأ أولى خطواته ليس فقط لمعرفة هذا العالم واكتشاف كنهه وإنما للتفاعل الإيجابي معه والمساهمة في التأثير فيه.
يظهر بوضوح لمن يتتبع الحياة العملية والعلاقات الاجتماعية للأستاذ القشعمي أنه كان غير بعيد عن الثقافة وأن الثقافة كانت قريبة منه منذ أن بدأ حياته الوظيفية بعد تخرجه من المعهد العلمي بالرياض. هذه العلاقة مرت بثلاث مراحل رئيسة هي إدارة الثقافة ثم توثيق الثقافة وأخيراً إنتاج الثقافة.
بدأت علاقته مع الثقافة مع بداية حياته الوظيفية في الإدارة العامة لرعاية الشباب التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ثم اقترب منها أكثر موظفاً ثم مسؤولاً في الإدارة العامة للشؤون الثقافية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب بعد إنشائها. وبحكم مسؤولية الرئاسة عن قطاع الثقافة وشؤونها في المملكة فقد تولت إدارة الثقافة فيها مهام دعم وتشجيع الثقافة بمناحيها المختلفة خاصة في المجالات الأدبية، وفي هذا السياق أشرف أبو يعرب على إصدار سلسلة (هذه بلادنا) للتعريف بمناطق ومحافظات المملكة.
يمثِّل انتقال الأستاذ القشعمي لمكتبة الملك فهد الوطنية وتوليه إدارة الشؤون الثقافية فيها بداية لمرحلة ثوثيق الثقافة. ولأن التاريخ الشفهي للمملكة بما يتضمن من قصص وأحداث ومواقف ومعلومات يمثِّل مكوناً رئيساً للذاكرة الوطنية خاصة في بلد لم تعرف أجزاء واسعة منه التعليم ولا حتى القراءة والكتابة إلا في العقود الأخيرة الماضية، فإن توثيق التاريخ الشفهي ضرورة وطنية ملحة. وبناءً على هذه المعطيات تبنت مكتبة الملك فهد الوطنية مشروع تسجيل التاريخ الشفهي الثقافي للمملكة العربية السعودية وتولى الأستاذ القشعمي مهمة الإشراف شخصياً على تحقيقه وتنفيذه. ويعتبر هذا المشروع عملاً كبيراً وهاماً بكل المقاييس فقد حافظ على خزائن الذاكرة الوطنية وحماها من الضياع، عندما نجح في عقد لقاءات تم خلالها تسجيل سيرة ومسيرة أكثر من أربعمائة شخصية وطنية في مجالات الأدب والإعلام والتعليم والإدارة والتجارة من مختلف مناطق المملكة.
يبدو أن تعامل الأستاذ القشعمي مع توثيق الذاكرة الوطنية الشفهية لعدد غير قليل من السنين ومع عدد كبير من الرموز الوطنية قد أيقظ عنده إمكانات وقدرات في الكتابة كانت كامنة خاصة ما يتعلق منها بالشأن التاريخي الثقافي فما كان منه إلا أن استل قلمه من (غمده) وغمسه في المحبرة مبتدئاً مرحلة جديدة متخصصة في إنتاج أعمال ثقافية غاصت في دهاليز الثقافة بحثاً وتنقيباً في التاريخ الثقافي والإعلامي والاجتماعي للمملكة. تتجاوز مؤلفاته أربعين كتاباً تناول فيها مختلف الأغراض الثقافية راصداً لأهم التحولات الأدبية والإعلامية والثقافية عموماً في المملكة مع التركيز على سير بعض الرموز الوطنية وتاريخ الصحافة السعودية وإعلامها وتتبع الجذور الأولى لنشأة المجتمع المدني في المملكة وما ارتبط به من حراك اجتماعي آنذاك. يُضاف إلى هذه المؤلفات التي ما زلت تتوالى لأبي يعرب -أمد الله في عمره- هو كاتب مقالات أدبية وتاريخية متخصصة ومرجعية في العديد من الصحف والمجلات.
هذا الرجل المعروف بحضوره الاجتماعي القوي والفعَّال وبعلاقاته وصداقاته الكثيرة في مختلف مدن المملكة وعلاقات وأواصر في كل أنحاء العالم العربي، هذا الرجل الذي تسبق سمعته رؤيته آثر أن يقضي جُلّ وقته في السنوات الأخيرة رهين مكتبته المنزلية مفضِّلاً مجالسة صديقه الكتاب قارئاً وكاتباً على ما سواه. يقول في لقاء صحفي أجرته معه صحيفة عكاظ في شهر سبتمبر الماضي إنه ومنذ ثماني سنوات يقضي ما بين سبع إلى ثماني ساعات يومياً بين القراءة والكتابة وأنه لا يخرج من بيته إلا نادراً ولحضور بعض المناسبات المتباعدة والهامة.
ونظراً للإسهامات الكبيرة والنوعية لأبي يعرب في مجال توثيق التاريخ الشفهي الثقافي للمملكة، وتقديراً لما أثرى به المكتبة الوطنية والعربية من مؤلفات امتازت بالغوص والتنقيب عن جوانب كانت مجهولة في تاريخ الصحافة وإعلامها وتتبع لمسيرة العديد من الرموز الوطنية الثقافية، فقد اختاره النادي الأدبي بجدة ليكون الشخصية المكرَّمة في ملتقاه لقراءة النص هذا العام 1446. شكراً وتقديراً للنادي الأدبي على هذا القرار الصائب والموفّق بتكريم أحد أبرز الوجوه الثقافية الوطنية وأعلامها.
** **
د. فهاد معتاد الحمد - وزير سابق للاتصالات وتقنية المعلومات