كلما كانت الرواية واقعية، ونُسجت بخيوط أدبية ولغوية محكمة النسج، وكان الروائي حِرَفِيًا في نسج حكايته، يجيد لعبة القصّ، وكان معدل الصدق في الرواية عاليًا، وتشدُّ القارئ من أولى صفحاتها، ومليئة بالتشويق والمفاجآت الغير متكلّفة، وبعيدة عن التقليد والدارج، وتسعى إلى فتح دروب وآفاق جديدة غير مطروقة، وتتميز بالدهشة وإعمال الفكر والتفكير عند القارئ، وتتعلق أحداثها بنياط القلب، بحيث يُحسُّ القارئ معها وكأنه في وسط معترك الأحداث، وتسير بالقارئ بخطىً حثيثة نحو النهاية بكل تشويق وبلا ملل وبكل صدق وواقعية؛ كانت رواية جيدة آسرة خالدة.
المقدمة السابقة هي نصيحة عامة بكل إيجاز نحو رواية جيدة خالدة، وإلا فالرواية وعوالم السرد مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي تستحق الوقوف عندها حتى تكون الرواية رواية عالية الجودة وخالدة في الأذهان لا تُنسى، فهناك فكرة للرواية وشخصيات وأحداث وحبكة للسرد ودراما وحوار وصراع وتراجيديا خاصة ووصف وأماكن وزمان، وهناك لغة وتراكيب وبلاغة وعنوان جيد ومثير، وهناك صدق وتشويق وإثارة وغيرها من تفاصيل يجب على الروائي والسارد الاهتمام بها.
فمن حيث الواقعية نجد أن الرواية الواقعية عبارة عن سردية لقصص واقعية وأحداث حقيقية من خلال تأليفها وإخراجها في دراما الرواية، وهي رواية هدفها إصلاح الواقع الذي يظهر ويُقدَّم في مضمون سردية الرواية، وإصلاح بعض سلوكيات المجتمع ودعم الصفات والقيم الإيجابية في المجتمع من خلال إنتاج أمثلة إنسانية تتعرض لأزمات وصراعات مختلفة وتُعرض بشكل درامي يدعو لرفع الوعي ودعم القيم الإنسانية والأخلاقية والسلوكيات الحسنة والإعلاء منها، ونبذ السيئ من هذه السلوكيات في المجتمع الخاص.
والواقعية الأدبية هي باختصار «تمثيل الواقع في الأدب»، أي تمثيل الموضوع بصدق دون اصطناع، مع تجنب العناصر صعبة التصديق وتجنب الإغراب وما وراء الطبيعة. فهي حركة تُصوِّر الواقع والحياة بدقة دون تحسين أو تجميل، وتجنح بعيدًا عن المثاليات والخيال وكل ما هو بعيد عن الواقع.
ومن حيث الفكرة، يجب أن تكون فكرة الرواية ملائمة لفكر وعقل القارئ، فلا تصح الفكرة الشاذة أو التي تتعارض بشكل كبير مع فكر المجتمع. كما أن الفكرة لا بد أن تبتعد عن التقليدية والمواضيع الدارجة، بل تجنح عن التقليدية وتكون فكرة حديثة أو محدّثة وغير دارجة ومستهلكة.
أما الشخصيات فكلما اقتربت من الواقعية والحقيقة كان ذلك أفضل للرواية، وينبغي تجنّب المبالغة في وصف الشخصية أو إضفاء مظاهر خيالية وغير حقيقية على الشخصية، فالأنجع لقيمة الرواية أن يكون وصف الشخصيات وتصويرها صادقًا ويأخذ في الاعتبار طبيعة الشخصية ومشاعرها وتكوينها النفسي والسلوكي، آخذًا في الحسبان نظريات وحقائق علم النفس والأنثروبولوجيا والسلوك، فيصف مشاعرها وخَلَجَاتها وأعماق الروح وعواطفها، مما يجعل القارئ يبحر في أفكارها ويغرق مع عواطفها ومشاعرها. فالشخصيات التي تنهض بالعمل الروائي هي الشخصيات التي تتميز بالصدق والقريبة من الحقيقة والواقعية، شخصيات يحس معها القارئ بالألفة والقرب من نفسه وروحه ومشاعره.
كما أن الحبكة ينبغي أن تكون باهرة، فالحبكة من أهم عناصر بناء الرواية، وجودتها تُجوّد العمل الروائي، إلى جانب كونها المعنى العام لتسلسل الأحداث بكل منطقية ومن ثم تسارعها بشكل متنام ومشوّق وتشابكها بشكل مثير ومحيّر ومن ثم النهاية، فلا بد أن يكون تتابع الأحداث متسلسلًا ومنطقيًا، فتكون أحداث القصة متتابعة يأتي بعضها ببعض بسبب ومُسبِّب، لا بصُدَفٍ فاضحة أو خلق حوادث عشوائية يُسيّر بها الكاتب أحداث قصته بطريقة تكون غير مستساغة وممجوجة من العقل، كأن يخترع أحداثًا لا تمثّل لنا طبيعة الحياة أو تكون متكلّفة أو غير طبيعية وفيها عَوَرٌ واضح، أو يضيف شخصية بلا مبرر لأجل إتمام حدث معين، أو أن يخلق حدثًا عشوائيًا أو يُدرج أحداثًا لا تتحلى بالمنطقية والصدق والواقعية ولا تدخل العقل البشري، أو أن يُنشئ صُدَفًا تبتعد عن الواقعية، مما يُضعف درجة واقعية الرواية وبالتالي تضعف جودتها وقيمتها.
كما ينبغي الاهتمام بالوصف الدقيق للأحداث ووصف الأماكن التي تجري بها عوالم الرواية وأحداثها ووصف البيئة والأماكن التي تتتابع فيها الأحداث بشكل جليّ وواضح مما ينسج للقارئ جوًا من الاندماج مع الرواية والدخول في الأحداث، ويثير خياله ويرفع من درجة التشويق لديه ويزيد متعته مع تتابع السرد.
وينبغي أيضًا التوازن بين السرد والوصف، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وإلا كانت رواية ركيكة ضعيفة، فيجب التوازن بين سرد المشاعر ووصف المشاهد بصورة مشوقة دون إطالة مملة أو تقصير مجحف في الوصف، مع الاهتمام بالتوازن بينهما.
أما الحوار في الرواية فلا بد أن يكون حوارًا فنيًا محكمًا صياغة وتركيبًا مع الأخذ في الاعتبار علوم ال لغة والبلاغة وتحليل الخطاب، ولا يكون الحوار كلامًا عاديًا أو حشوًا بلا حاجة ولا مبرر، وأن يتميز الحوار بكشفه عن أعماق وخفايا الشخصيات التي تتحدث، بشكل طبيعي وصادق؛ أي الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يجنح بالحوار بعيدًا عن طبيعة الحياة والبشر والواقع مما لا يُستساغ عقلاً وذوقًا.
هكذا تبتعد الرواية عن تصنيف الرداءة والضعف، وتبتعد عن مصير النسيان بعد قراءة آخر صفحة منها، فتغدوا رواية جيدة مبهرة، خالدة في النفوس والأذهان.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد
@Drsayer_