تقدَّم الحديث في المقالة السابقة بجريدة الجزيرة في صفحتها الثقافية بالعدد (18831) بتاريخ27 جمادى الآخرة 1446هـ بعنوان (الفيصل وكفّ السؤال عن بني هلال) عن كتابه (شعر بني هلال) في (3 أجزاء)، ويحرص المهتمون بتحقيق النصوص والمواضع البلدانية على تلقف أي رأي مهما تكن صيغه المثبتة من أهل الاختصاص، وفهم مقاصده في السياقات المتعددة، ومحقق الديوان أ.د. عبد العزيز محمد الفيصل من المنظور لهم بعين الإجلال بحكم الممارسة العملية الطويلة وكثرة أعماله المتخصصة في شعر القبائل وقيس بوجه عام وبني عامر بوجه خاص، فيصبح رأيه المصوب بالمصدر والواقع الماثل للعيان رأيًا قطعي الثبوت لمن يعرف تنزيل الأدلة على مواقعها وتظافرها بالقرائن، والنظر إلى تنزيل الأطلال أو المواقع الواردة لدى الشعراء في المحل الأمثل، غير مقطوعة عن السياق الجغرافي لواقع المكان وتحركاتهم مع قبائلهم على رؤية متفارضة بتوجهات غير متعارضة مع صحيح النقل والعقل، وقصيدة حُمَيد بن ثور الهلالي -رضي الله عنه- معنونة المطلع:
سلا الرَّبْعَ أنَّى يمَّمَتْ أمُّ سالمٍ
وهل عادةٌ للرَّبعِ أنْ يتكلَّما
أما الموضع الذي أشكل على الهمداني إضافة إلى ثلاثة من مشايخنا وغيرهم؛ حمد الجاسر، وفرّاج بن شافي المسردي (تثليث)، وفهيد بن تركي السبيعي (رنيَة) وهم من روّاد الكتابة والتأليف والعناية بالمواضع، ولهم صلة بشيخ الجميع الجاسر -رحم الله من قدم منهم، وعافى من تبقى- الذي تناول (يَبَنْبَم) في مطلع عدد مجلة العرب ج9-10 س25 الرَبْيعان1412هـ ص577، ومثبت صيغة الشاهد:
إذا شِئتُ غَنَّتْني بِأجْزَاعِ بيشةٍ
أو النَّخْلِ من تَثْلِثَ أًوْ من يَبَنْبَما
وتحاول المقاربات إسقاط (يبنبم) على أربعة مواضع، كلها شبه متقاطرة من الغرب جهة بيشة إلى الشرق الجنوبي حتى شمال محافظة (يدمة) بما يوازي (65) كيلا أو أقل إلى (منقع الحمام) غرب مركز إمارة (مركز) (الوَجِيد) الماء الشهير شمال نجران، وشرق شمال أمارة (مركز) (العين) الذي يتبع حاليًا محافظة (الأمواه) في منطقة عسير (ينظر مجلة العرب ص592). أما الموضع الثاني الذي يليه من الشمال الغربي؛ فيُتوقع أن يكون شرق شمال (تثليث) وغرب ماء (جُرَيْر) يحتمل أن يكون في وادي تثليث نفسه بعد أن يلتقي بأودية عديدة أقل حجمًا وشهرة، وهذا الطول من تثليث إلى جرير لا يزيد عن (85) كيلًا تقريبًا وموقعه قد يكون في أوسطه، أما الثالث من الجنوب من (تثليث والأمواه) فيعيّن من وادي (سَروم) الذي يقطعه الطريق من (ظهران الجنوب) باتجاه (بيشة) وهو من طرق المحجة، والأخير في جنوب شرق بيشة، وكل المواضع لا تطابق الرواية المثبتة في الديوان في البيت رقم (154) وهو:
إذا شِئتُ غَنَّتْني بِأجْزَاعِ بيشةٍ
أو الجَزْعِ من تَثْلِثَ أًوْ من يَبَنْبَما
ولدى الفيصل رواية (النخل) مكان (الجزع)، و (يلملم) مكان (يبنبم)، إذ وردت:
إذا شِئتُ غَنَّتْني بِأجْزَاعِ بيشةٍ
أو النَّخْلِ من تَثْلِثَ أًوْ بيَلَمْلَما
أَشاقتك أظعانٌ بِحفْرِ يَبَنْبَمِ
نَعَمْ بُكُرًا مثْلَ الفَسِيْلِ المُكَمَّمِ
والحفر يكون ما يلزم الماء، و قد يسمى الجفر، وهناك مواضع عديدة في هذا المحيط قد تطابق الوصف لن نقرر بشأنها شيئًا لحاجتها إلى حديث مطول، وفيصل القول ما فصَلت به رواية الفيصل مصدرًا وواقعًا وقرائن المناسبة وتذبذب الروايات السابقة، وتباعدها وتلابس تعييناتها، ووضوح القصد من هذا الفخر لدى حُميد -رضي الله عنه- على حسن المكان وثبات الإقامة في قول لا ينكر عليه واضح الحيازة. ووادي تثليث هو نفسه وادي الدواسر وما زالت التسمية قائمة، وشماله اجتماع أودية عمادها واديا (رنية وبيشة) يكتنفانها جميعا.
ومعالجة الفيصل للمواضع في الكتب والبحوث ونشر المقالات تحتاج إلى حديث موسع، ومعارضته تدل على أهمية ما يطرحه تصديرًا وتقريرا. ومن هنا تكمن أهمية العلماء وتفضيلهم نقلاً على نقل، إثباتًا ونفيًا وتضعيفًا وترجيحا.
** **
تركي بن شجاع بن تركي الخريم - باحث تراث في المواضع والقبائل
@Turki11_88