كلمات جاءت في كتاب دلائل الإعجاز - لعبد القاهر الجرجاني (471 هـ) حامل راية البيان والبلاغة، دافع ونافح وبيّن أوجه التوهج؛ فصّل فيما أُجمل وقيّد ما أطُلق وأبان عما أُبهم وأشار إلى دلائل الإعجاز في القرآن، وربط الإعجاز بالمعاني والنَظم في سياق بياني عذب.
دفع السائد بكلام صاعد؛ سادَ أنّ الفصاحة تكون بالألفاظ واستعمال النادر منها دون المعاني؛ وهذا الرأي المدخول خرج من قوم كما يقول الجرجاني: (لهم نباهة وصيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم غير العلم الذي قالوا فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا وظهر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره، وصار ترك النظر فيه سنة، والتقليد ديناً ) ويرى المحقق: محمود شاكر أنّ المقصود: (القاضي عبد الجبار، ت 415 هـ )، دفع الجرجاني بحميّة جارفة وحجج داحضة ماساد ببراعة وإتقان؛ وذهب أنّ الفصاحة في نَظم المعاني ومراعاة النحو ووضع كل لفظة في موضعها الذي يليق بها، وفي حالات يكون البيان أفصح في الحذف والإضمار.
والبيان خُصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نَسْقِ الكلام بعضها على بعض.
وأبان عن الكيفية وأشار عن مواضع الإعجاز في القران بأستاذية، وقال واصفًا مزية علم البيان:
(إنك لا ترى عِلْماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جنى، وأعذب ورداً، وأكرم نِتاجاً، وأنْوَرَ سِراجاً، من علم البيان.. والذي لولا تحفِّيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة).
وساق مثال في توظيف لفظة (نَعم) ونظمها في سياق تَرى لها لُطْفاً وحُسْناً - وهو قول الشاعر:
قُولي نَعمْ ونَعمْ إِنْ قُلتِ واجبةٌ
قالتْ عَسى وعسى جِسْرٌ إِلى نَعَمِ .
فالنَظم أداة؛ ورُبّ هَزل صار أداةً في جِدّ، ورُبَّ شيء خسيس توُصِّل به إلى شريف، بأن ضُرب مثلاً فيه وجُعل مثالاً له، كما قال أبو تمام:
واللهُ قَدْ ضَربَ الأَقلَّ لنورِه
مَثَلاً منَ المشكاة والنِّبراسِ
والفصاحة لها تأثير على القلوب؛ وكان الحسن البصري -رحمه الله - يتمثَّل في مواعظه بأبيات من الشعر، وكان من أوجعها عنده، قول الشاعر:
اليومَ عندكَ دَلُّها وحديثُها
وغَداً لِغيرك كَفُّها والمِعْصَمُ
ومن المنثور الفصيح الذي بلغ الغاية في الإتقان؛ وأعيا أن يطلب مثله؛ قول سيبويه في تعريف الفعل في كتابه (الكتاب قال:
(وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع).
وأسمح لي، عزيزي القارئ، أن أصحبك بجولة أعرض عليك فيها أبياتًا مُنتقاة من فحوى الكتاب، فأرهف سمعك ولا تطبق جفنك:
ونستفتح في المديح الأنيق والتشبيه الفاخر، قال الشاعر:
فكالسَّيفِ إنْ جئتَه صارِخاً
وكالبَحْر إِن جئتَه مُسْتثيباً
وفي الشموخ والأنفة؛ قال الشاعر:
وإِنّا وما تُلقِي لَنا إنْ هجَوْتَنا
لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البَحْرِ يَغْرقِ
وفي إطار الكرم؛ قال الشاعر:
لا يأْلَفُ الدِّرْهَمُ المَضْرُوبُ خِرقَتَنا
لكِنْ يَمُرُّ عليها وهو مُنطلقُ
وفي الغزل الرقيق، قال الشاعر:
يزيدُكَ وجْهُهُ حُسْناً
إِذا ما زِدْتَه نَظَرَا.
وفي تلمس الأعذار بتكلف، قال الشاعر:
لم تَفُتها شَمْسُ النَّهارِ بشيءٍ
غَير أنَّ الشَّبابَ ليس يَدومُ.
وفي الثقة بالنفس، قال الشاعر:
فإنْ أَهلِكْ فقد أَبقَيْتُ بَعْدي
قوافيَ تُعْجِبُ المتمثِّلينَا
لَذِيذاتِ المَقَاطعِ مُحْكَماتٍ
لوَ أنَّ الشِّعْرَ يُلبس لارتُدِينَا
وفي الإتقان والتمكّن، قال الشاعر:
نعم إنِّني مُهْدٍ ثَنَاءً ومِدحَةً
كَبُرد اليَماني يُرْبِحُ البيعَ تَاجِرُه.
وفي تقلّب الأيام وتبدل الأحوال؛ قال الشاعر:
لو أنَّ ما أنتمُ فيهِ يدَومُ لكُمْ
ظنَنْتُ ما أنا فيهِ دائِماً أَبدَا
لكنْ رأيتُ اللَّيالي غيرَ تاركةٍ
ما سَرَّ مِنْ حادثٍ أوْ ساءَ مُطَّرِدَا
فقد سكَنْتُ إِلى أَنِّي وأَنَّكُمُ
سَنَستجدُّ خِلاف الحالتين غَدَا
** **
- إبراهيم الجنيدل