أظل واقفة. لا أتذكر الزمن الذي بدأت فيه بالوقوف لكنه زمن قديم بالتأكيد. ليس لدي ما يؤكد أو ينفي زمن الوجود. زمن الوقوف. أقف على قدم واحدة وأحيانًا اثنتين وثلاث وأكثر. عدد الأرجل غير واضح. لا شيء واضح. تتمدد أطرافي وتتبرعم وتزهر حينًا. وتتقصف ويحرقها اليباس حينًا آخر. وتأخذ وضعًا وسيطًا بين الازدهار واليباس أحيانًا.
أتجه نحو الأعلى بهدوء وروية. دون عجلة. يهزني شعور غامض وشوق غامر للمرتفعات والأعالي. أكره الاتجاهات الجانبية وأراها مضيعة للوقت وهدرًا للجهد الذي ينبغي صرفه في محله المناسب، الأعلى ولا شيء آخر غير الأعلى. المكان الذي أظنني أنتمي له. في الوقت نفسه لا أستطيع الجزم على الرغم من محاولاتي الدائبة استخلاص نتائج أقدامها ثابتة.
أستمر بالوقوف في أرض ممتدة شاسعة فارغة إلا مني. أقلب بصري في الأنحاء فيرده الصمت. تتدلى أطرافي ويبهت لونها معظم الوقت. وإذا انفتحت السماء تبتلُّ عروقي وأرقصُ حتى أشعرُ بالتعب وأنام فيراودني كابوس بفأس يقطع أوصالي لأصحو برعدة تجتاحني وحفيفي المحزون يعبئ الدنيا.
تشرق الشمس وتغيب وتشرق مرة أخرى. يتوالى الإشراق والغياب بينما أمتد وتتفرع أطرافي. أتخيل نقطة علوية وأعمل على تجاوزها كل مرة. أنجح لكن نجاحي محدود. يأتي موسم اليباس فأعود إلى نقطة الصفر. لا أشعر بشيء. أنتظر موسم النماء فأتمدد وأعود وأتمدد وأعود. يزورني الفأس. يقطع أطرافي الموبوءة باليباس. يغيب الأعلى ويختفي. أتلمسه بطرفي الكليل. ثم حين ألمحه في مواسم الخصب وأشرع في محاولة الاقتراب منه يعود اليباس ومعه الفأس. لكنني أنمو وأظل أنمو.
هجست.. ما الفأس؟ لماذا يحرص على مواعيده كل هذا الحرص؟ هل حياته متعلقة بشكل أو بآخر بموتي؟ أتدنيه حياتي من موته وموتي من حياته؟ أم هو فأس عابث لا أكثر وأنا أحمل أفعاله ما لا تحتمل؟ أخذ مني تأمل حالة الفأس نهارًا وليلًا طويلين انتهيت منه إلى أنه عائق حقيقي. الحقيقة الوحيدة التي أعرفها. اليباس يرده الخصب. والبطيء يتأخر لكنه يصل. الفأس تهديد وجودي لا يعيق رحلة الارتفاع فحسب بل ينازعني على حياتي.
تواصل وقوفي الأزلي. بت واقفًا، متطلعًا للأعلى، ومحاولًا حل كارثة الفأس. ترسخت ثقتي بمقدرتي وأنها مسألة وقت. بضع ليال وينتهي أمره. سأركله وسيرحل دون عودة. ثم سأقف بعينين مسمرتين نحو الأعلى فحسب. لن أنشغل عن مهمتي بفأس تافه. سأنتظر زمن قدومه. ولن أتيح له العبث بأطرافي. سأتحدث معه كائنًا محترمًا لآخر. سأضع رؤيتي للموضوع على طاولة الحوار. وسيسود منطق التعقل والحكمة في نهاية الأمر. سيكف الفأس اللعين عن تحطيمي وجز أطرافي وأهدابي كل مرة. ستحل الإشكالية دون عنف.
الشمس تشرق وتغيب. النهار يأتي ويذهب. الزمن يتدحرج. الفأس لا زال يزورني في مواسم اليباس. يتركني أخصب قليلًا ثم يجتاح أطرافي مثل إعصار. في البداية انتبهت إلى اتجاهي. لم يكن للأعلى كما أعرف نفسي. بت أميل وبدأت أطرافي تتأرجح. الزاوية العامودية الحادة أخذت رويدًا رويدًا تنحني.
هل للفأس يد في انحنائي. تساءلت. لو تمكنت من الجلوس معه على طاولة واحدة. لا زال يقيني بالحوار راسخًا لكني لم أجد فرصة. يتسلل. يقضي وطره قبل أن يرتد إلي طرفي. بدأت أفقد أنفاسي. آخذ واحدًا ويهرب مني اثنان. انحنيتُ وسقطتْ معظم أطرافي. سأقنعه بالبراهين والأدلة أنه يعبث. وأن ممارساته تدميرية وإجرامية ولا مبرر لها. تعطل وعيي النهاري بشكل كامل وانتكس الليلي انتكاسة حادة. أقضي معظم الوقت في النوم. تتفاقم حالة الانحناء. تحولتُ إلى أشلاء أغصان منتثرة. لو حاورت اللعين لأقنعته بعدم أخلاقية عمله. كنت في الرمق الأخير. أتقيأ مائي من عروقي دفعة واحدة. غامت الرؤية وتشوشت. وبينما أحاول التقاط آخر أنفاسي لمحتُ يدًا هائلة تحمل الفأس الباكي.
** **
- د. محمد بن خليفة الخزّي