أ.د.صالح معيض الغامدي
نختم في هذه الحلقة الأخيرة من هذا الموضوع بالأبعاد الثلاثة الأخيرة في حضور الإبل في سيرة (التحول) وهي:
3 - سياق العادات والتقاليد:
ورد ذكر الإبل مرتبطاً بالحديث عن بعض العادات والتقاليد التي كانت مرعية في مجتمع الكاتب، « ومن عاداتهم أنهم يعقرون الإبل أو الأغنام على القبور أو على الشجر لأجل التبرك والعلاج أو طلباً للنسل» (44).
ومن عادتهم كذلك «النحلة»، فإنهم يربطون قطعة السر حين الولادة بإحدى الإبل فتسمى النحلة وهي تخص هذا الطفل …» (45).
وعن عادة خضاب الإبل يقول: « وقد رأيت الخضاب على رقاب الإبل وهو من الدم تخضب مطية الضيف، وتخضب المطايا عند الأعياد، والخضاب دم يمد به على طول رقاب الإبل» وعند إكرام الضيف، علامة على إكرامه (91).
يذكر أن منطقة تبوك توارثت أمماً سابقة من العاديين والثموديين من قوم صالح وحكاية الناقة …..» وما قد يتبع ذلك من معتقدات (45).
4 - سياق التحول الحضاري:
تحضر الإبل في هذا السياق في سيرة العطوي الذاتية مرتبطة بالفترة الزمنية المتأخرة نسبياً من حياته، فقد شهدت المملكة تطوراً واسعاً في شتى مجالات الحياة ومنها بطبيعة الحال المواصلات، فلم تعد الدواب ومنها الإبل هي الوسيلة الرئيسة للتنقل والسفر، فقد حلت مكانها السيارات والطائرات وغيرهما من وسائل النقل الحديثة، ومع ذلك نجد الجمل أو الناقة حاضراً في هذا السياق في كثير من النصوص الأدبية السعودية وبخاصة الشعبية منها، ويكون حضورهما في الغالب الأعم حضوراً رمزياً يدل على مدى تعلق الأدباء بأصالة الماضي وما يمثله من قيم جميلة يحنون إليها، وعادة ما يرد هذا الاستدعاء في مقابلة يجريها الكاتب بين الجمل والسيارة، تطرح فيها تساؤلات حول ما إذا كانت السيارة ستقضي على الجمل في هذا المجال، وتتعدد الإجابات بتعدد الكتاب بطبيعة الحال.
وقد خص العطوي هذا التحول بمبحث في سيرته بعنوان «التحول من الإبل إلى العربات»، وذكر المراحل التي بدأ الناس فيها يتخلون عن الإبل بوصفها وسيلة نقل شيئاً فشيئاً مع قدوم السيارة، وقد بدأ هذا التحول «فيما يقارب ثلاثين عاماً حتى أضحت القرى والريف، بل وأبناء البادية يستعملون المكونات الحضارية من السيارات …» (83).
والحقيقة أن الإبل في هذا السياق ليست هي الإبل الحقيقية فقط، بل ما تمثله من ثقافة كاملة بكل معطياتها الحياتية والوجودية، فالاستعاضة عن الهودج بالسيارة لنقل العروس إلى بيت زوجها التي أشار إليها العطوي (87) على سبيل المثال، لم تكن تعبيراً عن رغبة منه في العودة إلى الهودج بقدر ماهي تعبير عن حنين جارف لما كان يمثله الهودج من قيم ومشاعر وجمال في طفولته وصباه، عندما كانت العروس تزف إلى زوجها «في موكب نسائي أو في هودج على جمل يقوده النساء مغنيات، وتتلوه نساء يهزجن بألحان خاصة …» (87).
لننظر إلى هذا المقطع الذي يقارن فيه العطوي بين الماضي والحاضر الذي يشي بحنينه للماضي وما يمثله: «وكانت العروس تُحمل على جِمال من بيت أهلها إلى بيت زوجها ولو كانوا متجاورين، فلما جاءت السيارة احتلت مكان الجمل، وربما تأثرت العروس برائحة البنزين، فأصيبت بالإغماء لأنها لم تعهد هذه الرائحة ….» (30).
وعلى الرغم من أن الكاتب قد رحل في سني حياته المتأخرة إلى واحة قنا للصيد على ظهور الإبل مع جمع من الشباب، إلا أنه ينتقد ظاهرة هجرة الحاضرة إلى البادية التي ظهرت مؤخراً وتتمثل في تربية الإبل وبخاصة لمن لا يمتلك القدرة على ذلك، أما الاعتناء بها والبذل لها وكذلك تربيتها للسباق وعرضها في المناسبات، فلا يعترض عليها من حيث المبدأ. بل إنه يشارك في رحلة الهجانة هو وبعض زملائه من أعضاء مجلس الشورى التي استضافها زياد عبد الرحمن السديري، نائب أمير الجوف سابقاً، ويصفها وصفاً دقيقاً بانتشاء، فهي كما يقول «من هواياتي وهي لها علاقة بالبراري والصحراء والربيع والشتاء وبناء بيت الشعر … (205).
ولا يمكن أن نختم هذه الجزئية دون أن نشير إلى ظاهرة أنسنة الإبل في بعض القصص التي يوردها الكاتب في سيرته، فهو يقول حول ظاهرة ألفة الإبل لأصحابها، على سبيل المثال: «حدثني صديقي عيد الزميلي أنه غاب من إبله شهراً إثر مرض، فلما عاد وجلس بالخيمة وإذا بالإبل تتوافد حول الخيمة كلها وتضع أنوفها على الخيمة» (119). ويخبرنا عن قصة أخرى قريبة من هذه غاب عن الإبل صاحبها فلما عاد وحداها «فأخذت الإبل تمد أعناقها له وعيونها تدمع. إنه موقف التآلف والتواد بين الإنسان والحيوان الأليف» (120). كما أن المؤلف يشير في سياق ربطه بين الإنسان والإبل إلى مصيرهم المشترك حتى في الموت، ففي حديثه عن النجعة، يصفها برحلة الأموات «فالنساء يمتن والإبل تموت والشابات يمتن فالطريق معلم من الأموات، وجثث الإبل والأغنام تملأ الأودية وسفوح الجبال، إنها (السنة العظامية) لكثرة العظام في الفيافي…(16).
5 - السياق اللغوي أو المعجمي:
يكثر في هذا السيرة ورود الألفاظ والمصطلحات المتصلة بالإبل، بعضها مفهوم للقراء وبعضها قد يكون غامضاً، ولذلك نجد الكاتب يقوم بشرحه في سيرته للقراء، ليس هذا فقط، بل إنه يخصص في سيرته عنواناً لهذا الموضوع هو (المراكب) يشرح فيه بعض المصطلحات المتعلقة بما يعد للركوب أو حمل الأثقال من أكسية توضع فوق ظهور الإبل، يقول «وسأصف منها ما أعرفه وتعاملت معه أو رأيت من يتعامل معه» (41). ومن هذه الأكسية: الوثر، والحوية والشداد، كما يشرح بعض معالم الزينة للمطايا، مثل:
العنان والمقود، والرسن: «وهي أسماء لما يوضع في رأس البعير وتحت فكه ويتواصل مع حبل يمتد إلى الراكب. وهذه تأنقوا في صناعتها فلها أهداب والحبل ملون وله كتل، وقد يسمى الحبل شكيمة وهو للعسف …»(41).
كما أن هناك إشارات إلى كثير من المصطلحات الأخرى المرتبطة بالإبل مثل النجعة والقطن والنحلة وغيرها.