عبدالله العولقي
لا تخلو ثقافة من الثقافات البشرية من اشتهار قصص الحب بين العشاق أو وجود أساطير الغرام بين ثنايا جذورها الثقافية، وكل الأمم تتشابه تقريباً في ثنائيات المحبِّين مثل (روميو وجولييت) و(أنطونيو وكليوباترا)، و(شاه جيهان وممتاز محل) لكن ثقافتنا العربية تزخر بثنائيات متعددة كعنتر / عبلة، وقيس/ليلى، وقيس (بن ذريح )/لبنى، وعروة /عفراء، وكثيِّر/عزة، وجميل / بثينة، بحيث أن الشاعر يُعرف ويتميز باسم محبوبته، لكنْ تظل ثنائية قيس / ليلى هي الأشهر والأكثر ارتباطاً بالذاكرة العربية، بل إنها تحولت في نظر البعض إلى الأسطورة الخالدة في الحب الإنساني، ليس لبعدها الزمني عنا وإنما لبعدها الإنساني ولخفايا تفاصيل الحقيقة عنا وبروز الخرافة والحكايات الملفقة والأشعار المنحولة ضمن سياق سردية الثنائية.
في تراثنا العربي تُروى الحكاية أن قيس بن المُلّوح العامري ( 24هـ - 68هـ ) عاش في العصر الأموي في بادية الجزيرة العربية، وأنه قضى طفولته مع ابنة عمه ليلى يرعيان الغنم في صباهما:
صغيرينِ نرعى البُهْمَ يا ليتَ أننا
إلى اليوم لمْ نكبرْ ولمْ تكبر البهْمُ
وبعد أن شبّتْ ليلى عن الطوق حجبها أبوها كعادة العرب، وهنا حصلت الصدمة النفسية العنيفة الأولى عند الشاب قيس، هذه الصدمة القوية لم تجعله يتصرف السلوك الصائب فلو كان خطبها من أبيها (عمه) لزوّجها إياه، لكنه ظل ينشد شعر العشق ويتشبّب بها حتى ذاع صيت هذه الأشعار بين القبيلة وربما بين القبائل المجاورة، هذا الخطأ السلوكي الجسيم الذي اقترفه قيس بحق العادة الثقافية العربية جعل أباها يُمْعنُ في منْعها عنه التزاماً بأصول هذه الثقافة المتوارثة من عمْق العقل الجمعي العربي، وعندما تقدَم إليها قيس للزواج رفضه أبوها تبعاً للعادة الثقافية، كما تقول بعض الروايات، فالقانون الثقافي ينص على منع تزويج الرجل الذي يتشبّب بالفتاة البكر، فسارع أبوها إلى تزويجها من شاب ينتمي إلى خارج السياق الجغرافي والقبلي المحلِّي ويُدعى (ورْد العقيلي) والذي رحل بها إلى الطائف، والذي لم تمكنه ليلى من الدخول عليها وفاءً لقيس فظلت الفتاة عذراءَ بكراً كما تقول الأسطورة إن صح التعبير، وبرحيل ليلى مع زوجها خارج مضارب القبيلة حدثت الصدمة النفسيّة الثانية لقيس فتحوّلتْ نفسيّته من الشخصية العاشقة الهادئة الوديعة إلى شخصية التمرد ضد قانون العرف الاجتماعي، ولأنه مجرد فرد واحد فلم يستطع مقاومة التيار الثقافي الأقوى مما أفضى به الحال إلى الجنون وذهاب العقل، فأصبح يهيم بالبراري والفلوات البعيدة بين الضواري والوحوش البرية حتى ألِفها وألِفتْه كما تقول الأسطورة، بل وصل به الحال كما تقول بعض الروايات إلى أنه كان لا يلبس إلا خرقة بسيطة يستر بها عورته، وكان لا يمشي إلا عارياً، يقضي يومه يجمع العظام من حوله، ولا يعود إلى عقله إلا إذا سمع اسم ليلى:
أُحِبُّ مِنَ الأَسماءِ ما وافَقَ اِسمَها
أَوَ اِشبَهَهُ أَو كانَ مِنهُ مُدانِيا
حكايات العشق الأسطوري بين قيس وليلى لا تجمعها سردية وتراتبية زمنية متواترة في التراث العربي، وإنما هي مجموعة من القصص المنثورة في كتب الأدب والتراث تصل في بعض الأحيان إلى حد التباين والتناقض، وبهذا وصلت الحكاية إلى درجة الأسطورة البعيدة عن الحقيقة، ولذا نجد راوية مثل أبي الفرج الأصفهاني صاحب موسوعة الأغاني يعلن براءته من أخبار قيس وليلى بعد أن اتضح له التزوير الجلي في سردية الخبر أو النحل الواضح في الشعر المنسوب إلى قيس، كما نجد أديب العربية الكبير أبا عثمان الجاحظ يقول: ما ترك الناسُ شعراً مجهولاً إلا ونسبوه إلى مجنون ليلى! أما طه حسين فقد نفى وجوده أصلاً، كعادته من التشكيك في قديم التراث العربي رغم أن القصة في الزمن الأموي وليس الجاهلي، فيقول: أزعم أن قيس بن الملوح هو شخص من الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب ليمثل لهم فكرة خاصة أو أنه شخص اخترعه نفر من الرواة ليلهو به الناس أو ليرضوا به حاجة أدبية!
أما الحقيقة الثابتة أن القصة كواقعة تاريخية فهي موجودة فعلاً وليست خرافة أو أسطورة، ويكفي استدلالاً بحقيقتها أنها حدثت في العصر الأموي أي أنها قريبة زمنياً ولا تصل إلى مستوى الأسطورة الغارقة في غياهب الزمن الماضي، بالإضافة إلى أنّ الأصفهاني والجاحظ لم يعترضا على أصل الحكاية وحقيقتها وإنما كان الإنكار على تهافت الرواة والحكّائين على سرد الإضافات المزورة التي لحقت بالقصة، بالإضافة إلى أن هناك شواهد جغرافية تؤكد حقيقة أصل الحكاية، ومن تلك الشواهد التاريخية وجود مدينة (ليلى) في وسط الجزيرة العربية والتي تبعد حوالي 300 كلم جنوب الرياض وتعد اليوم قاعدة محافظة الأفلاج، وهذه المدينة التاريخية سميت بذلك كما يرى بعض المؤرخين تخليداً لجغرافيا أشهر قصة حب في الثقافة العربية:
أمرُّ على الديا ر ديار ليلى
أُقبّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
ومما يزيد الأمر صدقاً ويقيناً وجود جبل التوباد في وادي الغيل بالقرب من هذه المدينة، حيث يعد هذا الجبل شاهداً تاريخياً وجغرافياً على سردية الحكاية، كما يوجد غار داخل جبل التوباد يسمى إلى اليوم بغار قيس:
وأجهشتُ للتوبادِ حين رأيتُه
وهّللَ وكبّرَ للرحمنِ حين رآني
انتقلت سرديّة حكاية الحب الخالد قيس وليلى إلى الثقافات الأخرى كالفارسية والهندية والتركية، وهذا الأمر طبيعي بين الثقافات المتجاورة، فكليلة ودمنة صنيعة ثقافية هندية عندما وصلت إلى فارس وأعجب بها كسرى أنوشروان أمر بترجمتها إلى الفارسية، وعندما وصلت إلى بلاد العرب قام الأديب عبدالله بن المقفع بترجمتها من الفارسية إلى العربية، كانت الترجمة تقتضي أن تتلاءم مع حيثيات الثقافة حتى يتقبلها المجتمع ويقبل عليها، ولأن محتوى كليلة ودمنة تتأسس على حوار الحيوانات فلم تكن الحاجة كبيرة إلى إحداث تغييرات في المحتوى من أجل تقبل الثقافة الجديدة بيد أن سردية قيس وليلى لم تنقلْ بسرديتها العربية بنسبة 100 %، وإنما أحدثت الترجمة الفارسية تحديداً تغييرات جوهرية ربما لتتلاءم مع حيثيات الثقافة الفارسية الغارقة حينها في الصوفية الثقافية الموروثة عن الديانات القديمة والبعيدة عن جوهر العقيدة الإسلامية الصحيحة، وهذا ما نجده اليوم في سياق حكاية قيس وليلى التي تحورت كثيراً عند ترجمتها إلى الثقافة الفارسية والهندية.
أول من تعرض لسردية قيس وليلى هو الشاعر الفارسي نظّامي الكنجوي ثم تبعه سعدي شيرازي ثم خسرو دهلوي وأخيراً عبدالرحمن الجامي، وكلهم حولوا الحب العذري في الأصل العربي نحو العشق الصوفي المباشر إلى الذات الإلهية بينما تتحول ليلى إلى مفهوم ( الواسطة) بين المحب والإله (تعالى الله عن ذلك)، وربما تعود هذه الانحرافية العقدية في مفهوم شعراء فارس إلى الجذور الثقافية المتسللة -كما قلنا- من الديانات القديمة، والتي أثرت لاحقاً في فكرة ومفهوم الصوفية عموماً، ففي السردية العربية يظل قيس في عزلة انفرادية هائماً في فلوات الجزيرة العربية نجده يتحول في الأدب الفارسي إلى الصوفي الزاهد الناسك الذي يصل إلى درجة عالية من التقوى والقرب من الله فنجده يهرب من المجتمع البشري إلى الفلوات ليعيش الحب الإلهي هناك، كما أنه يألف الوحوش من الحيوانات ويصاحبها في البراري لأنها نقية من الدخائل ولا تحمل الأحقاد والضغائن!
وفي أدبنا العربي الحديث تعرض أمير الشعراء أحمد شوقي لحكاية قيس وليلى، يقول الدكتور عبدالحفيظ حسن عن هذه التجربة: جمع أحمد شوقي في مسرحية قيس وليلى بين التقنيات الكلاسيكية والسمات الرومانسية في الأدب الأوروبي وكذلك ملامح الرومانسية الوجدانية في الأدب العربي، كما تعرض لحكاية قيس وليلى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور فتحولت - في تجربته - ليلى إلى رمز للوطن الذي يحتضن جميع أبنائه، أما المجنون فرمز إلى الشعب الذي يهيم بوطنه!
وإذا تأملنا سياق التراث العربي عموماً، سنجد أن ليلى قد تحولت إلى رمزية خالدة للحب وأيقونة للعشق:
وكلُ يدّعي وصْلاً بليلى
وليلى لا تُقرٌّ لهمْ بذاكا
هذه الرمزية أو الأيقونة استدعت الأدباء والشعراء أن يرمزوا لمحبوباتهم بليلى كي لا يفصحوا عن الأسماء الحقيقية لدواعٍ مختلفة، يقول الشاعر العباسي أبوبكر الشبلي:
جُنِنّا بليلى وهي جُنّت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدها
ويقول الشاعر العراقي المعاصر حسن مرواني في ملحمته الشهيرة أنا وليلى:
أمشي وأضحكُ يا ليلى مكابرةً
علِّي أخبِّي عن الناس احتضاراتي
نعود إلى حكاية صاحبنا قيس ونقول أنّ نهايته كانت مأساوية حزينة، حيث تذكر بعض الروايات أن أهله كانوا يركضون خلفه في القفار ويتركون له الطعام، ثم يتوارون عن مدى ناظريه، وفي يوم من الأيام وجده بعض البدو ميتاً في وادٍ كثير الحجارة وعندما عرفوه حملوه إلى أهله، وما أن سمعت بموته الفتيات إلا وخرجن حاسرات الرأس يبكون ذلك العاشق المجنون!!.
وهكذا انتهت حكاية قيس بحقيقتها التي وقعت في وسط الجزيرة العربية، وأسطورتها التي تشكلت حولها بتزوير ومبالغة بعض الروايات والأشعار والترجمات حولها، لتظل هذه الحكاية الخالدة جزءاً من ذاكرتنا وثقافتنا العربية.