د.حسن مشهور
لا يمكن بأي حال أن نعزل الرواية وتشكلها عن السياق الاجتماعي الذي نشأت فيه، في ذات الوقت الذي يكون للمُشكِّل الاقتصادي والسياسي أيضًا تأثيرًا مصاحبًا يظهر في تقاطعات بنيوية للمركَّب الروائي ولو حتى على شكل ومضات متقطعة بين تتابعات زمنية السرد يلحظها القارئ الجيد بين وقتٍ وآخر. وعند تأمل واقع الرواية السعودية وإرهاصات تشكلها حتى اكتمال بنيتها في شكلانيتها الماثلة للعيان، فسنجد بأن الرواية السعودية، كغيرها من الروايات العالمية، قد كانت لها إرهاصات أولية للتشكل ومرتكزات نشأت وقامت عليها يمكن رصدها في إطارين أولهما؛ المخزون الثقافي الفلكلوري، حيث قد أدت حكاوي الجدات وإعادة تدوير بعض القصص الشعبية لجعل الذائقة السعودية تميل للسرديات وتتعاطاها في جلساتها العائلية وخاصة في ظل محدودية البنية التحتية والتمدن حينذاك. إذ إن التنمية الاجتماعية وحالة التمدن الداخلي السعودي في كافة المناطق لم تكتمل سوى في أوائل تسعينات القرن الميلادي المنصرم. لذا فقد كان أغلب أفراد الأسرة يجتمعون حول الجدة أو الأم أو أي فرد آخر من كبار السن بالأسرة ليستمعوا للقصص الشعبية وللعديد من الحكايا قبل الخلود المبكر للنوم. وفي تقديري، إن هذه الممارسة -شبه اليومية- قد عزَّزت ميل الأذن السعودية للتعاطي مع السرد ومهدت الطريق لتقبله والتعاطي معه كممارسة فنية. ولذا فعندما بدأ البعض في الكتابة السردية على حجم تواضعها فإن ذلك النتاج قد لقي قبول من الأذن السعودية ولم يجابه بحالة رفض أو أي شكل من أشكال مقاومة التغيّر.
في حين إن الإطار الثاني لنشؤ الرواية السعودية قد تولد جراء الاطلاع على النتاج السردي العربي والمترجم. إذ كانت فاتحة هذا الاطلاع تتمثل في تقديري فيما كتبه محمد حسين هيكل، وأعني بذلك روايته الشهيرة « زينب «. إذ إن تلك الرواية قد كانت إيذانا بولادة فن الرواية العربية، فعلى رغم بساطة فكرة الرواية والبناء الروائي لمجمل العمل، إلا إن هذه الرواية قد كانت فاتحة لعصر عربي جديد من الكتابة السردية. كما أن رواية سارة «للعقاد» وكذلك رواية «دعاء الكروان» لطه حسين تعدان رافدين داعمين لتعزيز الحضور الروائي على الساحة العربية، ومن ثم اطلاع العديد من الشعوب العربية ومنها أدبائنا في الداخل السعودي على تلك الأعمال الروائية وغيرها من تلك الروايات التي ترجمها آخرون عن الأدبين الإنجليزي والفرنسي كترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي عن الفرنسية، وترجمات الدكتور لويس عوض عن الأدب الإنجليزي، ثم ما تلا ذلك بفترة زمنية ليست بالقصيرة من بروز أسماء عربية قد حملت لواء التأصيل الفني للرواية العربية في شكلها الصحيح، أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعي وآخرون. فإن مجمل ذلك قد أسهم في اطلاع ومن ثم تعزيز الوعي الفهمي الإدراكي لآلية (ميكانيزمية) كتابة الرواية في العقل السعودي، حيث قد تمكن هذا الزخم والحضور للرواية العربية من جذب انتباه العديد من الأدباء السعوديين ودفعهم لمحاولة محاكاته والعمل وفق آلية بنائه مستغلين في ذلك ملكات السرد الحكوي الشعبي الذي اكتسبوه من خلال تعاطيهم للموروث الحكائي الشعبي.
فكان إن أطلت علينا رواية التوأمان للراحل عبدالقدوس الأنصاري، والتي كانت فاتحة عصر جديد من كتابة الرواية في الداخل السعودي. كما أن هذه المحاكاة للأعمال الروائية العربية قد أوجدت لاحقًا في ساحتنا الأدبية السعودية العديد من النتاجات والأعمال الروائية والتي كان الغالبية منها متوسطة في بنيتها وتشكيلها نتيجة كونها لم تبنى على خبرة ودراية علمية وإنما كانت تجسيداً ومحاكاة Imitative Novel لأعمال بعض الروائيين العرب. ومع تتالي الأيام، واتجاه البعض ممن درسوا في مراحل الدراسة الجامعية وخاصة أقسام الأدب الإنجليزي لآلية كتابة الرواية الأدبية في بنيتها التشكيلية الأصيلة، فقد ازداد عدد الأدباء السعوديين الذي قد اتجهوا لكتابة الرواية في شكلانيتها التي تقارب البناء الروائي في رونقه الأصيل.
ومع انطلاق مهرجان الدرعية للرواية، الذي أرى بشكل جدي إنه إضافة مثلى لرفد الأدب الروائي في الساحة الأدبية السعودية، والذي أشار في توصيفه لوظيفته الرئيسة بأنه يعد نقطة تجمع نابضة لعشاق الأدب، حيث يضم معرضًا كبيرًا للروايات، وورش عمل يقودها رواة دوليون مشهورون، فإني آمل أن يتم التركيز على عدد الورش والمشاغل التي تخصص لتعليم آلية كتابة الرواية الفنية على اختلاف أنواعها. وأن يخصص حضور الورش الفنية -بشكل رئيس- للروائيين الشباب من الجنسين. كما أرى أن يتم رفع نسبة حضور كل ورشة عن العدد الذي حدده القائمين على المهرجان.
كما أرى أيضًا، ألا يتم التعاطي مع آلية تقديم الورش من قبل المدربين (الروائيين) كعرض صوري وإلقائي، وإنما من الأجدى أن يتم تدريب الحضور لهذه الورش من أبنائنا وبناتنا المو هوبين بشكل واقعي، خاصة ما يتعلق بتوليد الفكرة الرئيسية، وآلية كتابة الحبكة الروائية، والأساليب الافتراضي لتوظيف الشخصيات الروائية (الكركترز)، والأنماط المثلى لتشكيل المبنى الحكائي، وكيفية رسم المتن الحكائي، وطرق تكثيف اللحظة الروائية، وفهم أنواعيات الزمن السردي والممايزة بينها، وكيفية توليد التداعي المخيالي الفكري، إلى جانب الأساليب الكتابية الجمالية التي تتشكَّل من خلالها الرواية الأصيلة.