كتب محمد بن كعب الغنوي بائيته التي يُقال في ترجمته أنها أشهر شعره، وفي مطلعها سؤال الحبيبة (ابنة العبسي) لحبيبها عن سبب شَيْبه وشحوب جسمه: «تقول ابنة العبسي: قد شِبْتَ بعدنا»، فيجيبها بأن أحداث الزمن تخرمت إخوته فشاب رأسه، (والخطوبُ تُشِيبُ)، فقد أصابت المَنِيَّة أخاه الذي يخصه في هذه القصيدة، فيخلد ذكره برثائية بعد قتله في حرب ذي قار، (والمنايا للرجال شعوبُ) تفرقهم حيث تستحيل اللقيا.
- ولا يطيق الشاعر انتظارًا فيبدأ في البيت السابع بسيل من الأمجاد والمحامد لأخيه، ثم في تعبيرٍ رائعٍ أَعدُّه التعبيرَ المركزي في القصيدة كلها، بل هو مفتاح القصيدة؛ إذ يعتمد على أسلوب الاستفهام التعجبي، بطريقة عذبة، حزينة، عاجزة عن الإحاطة بتعريف يليق بمكانة أخيه، فيقول:
أَخِي ما أَخِي لا فاحِشٌ عِنْدَ بَيْتِهِ،
وَلاَ وَرَعٌ عِنْدَ اللِّقاءِ هَيُوْبُ
- أخي ما أخي؟! شعرت بعد هذا البيت بعجز الشاعر، ورغبته في الحديث عن أخيه، لكنه لا يعرف السبيل إلى ذلك؛ لعظيم شأنه في نفسه، فكيف يحيط بخبره؟ لذا قال: أخي ما أخي؟! سؤال قصير، قد يبدو سهلًا بتركيبه، ويسمى بأسلوب السؤال عن الشيء بعد ذكره، لكنه سؤالٌ ذو شجون، يختزن في حروفه القليلة وتكرار كلمة (أخي)؛ الكثير من الكلام الذي يراد قوله ولا يفي بحق أخيه.
- والسبب الذي لأجله وصفتُ البيت بمركز القصيدة أنَّ الإجابة عن هذا السؤال استغرقت خمسين بيتًا في رواية أبي زيدٍ القرشي، إذ حاول فيها الشاعر أن يشرح للمتلقي ولحبيبته السائلة من أخوه؟
- يقول إنَّ أخي لم يتصف بالفحش بين أهل بيته، ولم يكن يهاب لقاء الجيوش، ووفاته في ساحة الحرب شاهدٌ على اتصافه بذلك؛ إذ هو حقيقٌ بهذا وجدير. وسيطول الكلام عند جماليات الصفات التي استعرضها في باقي القصيدة، ولكني سأقف عند أعذبها دلالة على حُزن قلبه، فيتحدث عن خسارته على المستوى الشخصي:
أَخي كانَ يَكْفِيني، وَكَانَ يُعِينُني
على نَائِبَاتِ الدَّهْرِ، حِينَ تَنُوبُ
- وكأني بالشاعر يقلب كفيه مستشعرًا هذه الخسارة، والعجز في مواجهة الحياة من بعده، فأخوه كان بطلًا يكفيه ويعينه، وهي بدايةٌ منطقيةٌ يبدأ بها الشاعر في الحديث عن فقده الشخصي، وكيف أثر رحيله على حياته هو، فقد خسر المعين والسند، وركن الأمان.
- وقد جمع هذا الأخ صفاتٍ متضادة، لأنه قادر على استيعابها، وإظهار كل صفة في سياقها الاجتماعي المناسب، فهو (العسل الماذيُّ) في لطفه وعطائه ولين طبعه، وهو الـ (ليثُ، إذا يلقى العداةَ غضوبُ)، وكذا هو (حليم إذا ما الحلم زيَّن أهله)، وفي المقابل (مُعَنىًّ، إذا عادى الرجال عداوةً)، لقد كان الذكاء العاطفي لافتاً لدى أخيه، إذ به يعرف كيف يتعامل مع صفاته النفسية، فهو القريب للحبيب وبيوت الحي، ولكنه مُعَنى مُتعِب لمن يعاديه أشد التعب. ثم في تعبير ساخط، يظهر الشاعر فيه استنكاره على الصبح الذي يطلع بعد وفاة أخيه:
هوتْ أمُّهُ مَا يبعثُ الصبحَ غادِياً
وماذا يُؤدي الليلَ حينَ يَؤُوبُ
- بدعاء يصب فيه وابل غضبه على الصبح والليل اللذين يواصلان عملهما دون تأثر بموت أخيه، فما الداعي لطلوع الصبح واطمئنان الليل في غيبته؟ وهنا يتعالى الشاعر بحزنه فيريد من الصبح والليل أن يتضامنا معه، جاعلًا حزنه حدثًا كونيًا، ثم يلتفت إلى قبره فيزجره كذلك:
هَوَتْ أُمُّهُ، مَاذَا تَضَمَّنَ قَبْرُهُ
مِنَ المَجْدِ، وَالمَعْرِوفِ حِينَ يُثِيبُ
- فكيف يجرؤ القبر على تضمن هذا المجد والمعروف والعظمة، وقد صنع مجده بكرمه، فلم يكن أخاه فحسب، بل كان:
أَخُو سنَواتٍ يعلَمُ الضيفُ أَنَّهُ
سيَكثُرُ مَا فِي قِدرهِ ويطيبُ
- وقد ظهرت جليًا صفة الكرم في أخيه، فـ (حبيبٌ إلى الزوار غشيان بيته)، وكأن بيوت الحي لم تشكُ فقرًا، فلقد كان أخاه رمزًا بطوليًا على مستوى المجتمع، كان (كعالية الرُمح الرُديني)، لا يخيب معه الرجاء بالكرم والشجاعة، وهي رأس الصفات التي ألحّ القول فيها، والتدليل عليها، لقد كان (حليف الندى يدعو الندى ويجيبه)، وقد بالغ في اندماج أخيه مع الندى، حتى أنه يقول: (يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعهُ) فحتى في حال نومه تكون هذه الصفة ملازمة له، فهو وهي شيء واحد. وكان (عظيم رماد البيت رحبٌ فناؤه)، لقد كان أخوه علامة فارقة في نجاحه وتفوقه الأخلاقي والقيمي حتى إنه:
إذا قَصَّرَتْ أَيْدِي الرِّجالِ عَنِ العُلَى،
تَنَاوَلَ أَقْصَى المَكْرُمَاتِ، كَسُوبُ
- وكأني بالعُلى كشجرة عالية، بعيدة المدى، تتقاصر دونها أيدي الرجال، حتى إذا ما جاء أخوه تطاول بيده دون جهد وتعب فتناولها، بما تحمله كلمة التناول من الدلالة على اليُسر الذي لا عناء في الوصول إليه.
- لقد كان الشاعر يبذل جهده في بلوغ الغاية التي بها تكتمل صورة أخيه كما تليق بمكانته البطولية، فيحاول مرة إجمال القول فيصفه بقوله: (جَمُوعُ خِلالِ الخير من كل جانب)، وتارة لا يرضيه الإجمال ولا يشفي حاجته للكلام، بل يتلذذ في استقصاء صفات أخيه، ففي البيت التالي للإجمال يأتي ويفصل بقوله:
مُغيثٌ، مفيدُ الفائدات، مُعَوَّدٌ
لِفعل الندى والمَكرمُات، نَدُوبُ
- وكأني أسمع صوت الشاعر اللاهث الذي تتزاحم الصفات في ذاكرته، محاولًا حشدها في هذا البيت بتتابع لم يسمح لحرف العطف في الفصل بينها، فهي صفات تأتي كُلًا واحدًا، يدافع بعضها الآخر.
- فلما أراد أن يصف ما حل بهم بعد وفاته، اختزلها في هذا البيت الذي تحول فيه الحال إلى آخر:
غَنِينَا بِخَيْرٍ حِقْبَةً ثُمّ جَلَّحَتْ
عَلَيْنَا التي كُلَّ الأَنَامِ تُصِيبُ
- وإن كان يمكن لمفردة أن تختصر الحال، فقد نجحت مفردة (جلَّحت) في شرح فجيعة الموت، وهوله، لشخص عزيز لا بديل عنه ولا عوض، لقد كانت مفردةً مثلت لنا معنى السلب بعد العطاء، والزوال بعد الوجود.
وبعد هذا البيت انطفأ الشاعر، فلقد كان في الأبيات السابقة يهتز منتشيًا بذكر محامد أخيه ومحاسنه، فلما جاء على ذكر موته وانتهاء بطولته همد.
- بل أصبح بعد هذا البيت زاهدًا في الدنيا فـ (الراجي الحياة كذوبُ)، وعَلِم عِلْمَ اليقين أن الباقي من الأحياء ( إلى أجل، أقصى مداه قريبُ)، ثم وصل إلى نتيجة صادمة قاسية فـ (لقد أفسد الموتُ الحياة)، فأتى يوم وفاة أخيه، فخطف منه كما يقول: (عِلقٌ عليَّ حبيبُ) والعِلْق النفيس، وأراد به أخاه، بل تنكر للدنيا وجحد أيامها الطيبة، فإن كانت الأيام قد أتت بيوم حسنٍ مرة (فقد عادتْ لهن ذُنُوبُ)، فكأن حياته الرغيدة مع أخيه لم تكن، وكأن أخاه لم يغزُ، ولم يُكْرم حين تشتد ريح الشتاء، وكأنه لم يملك المجد، فما فائدة الذكريات الجميلة إذا مات صاحبها؟!
- وفي بيت يتلبس فيه الشاعر حالة الحزن الأبدية التي أخذها عهدًا ودَينًا يؤديه لأخيه، وفاءً واعترافًا بحبه الصادق، وحزنًا يليق بمكانته في نفسه وفي مجتمعه:
وَإنّي لَبَاكِيهِ، وإنّي لَصَادِقٌ
عَلَيْهِ، وَبَعْضُ القَائِلِينَ كَذُوبُ
- سيبكيه بكاءً صادقًا فهو يبكي أخاه (فتى الحربِ)، و(ماءُ السماء)، وعلى شديد الشبه بين رثائيته وقصيدة الخنساء، إلا أنه يختلف معها هنا، فهي ترى أن بكاء الأخ حالة شعورية يعرفها كل من فقد أخاه، قائلة:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
في حين أن كعبًا اختلف معها في ذلك، فجعل أخاه حالة نادرة، بل قال إنه باكيه بكاءً يليق بحقه، ووصف بعض الباكين غيره بالكاذبين، ثم تأتي الخاتمة البكائية التي تذيب القلب، قائلًا فيها: (فلو كانت الدنيا تباع اشتريته)، ولك أن تتخيل بماذا سيشتريه، يقول: (بعينيّ أو يُمنى يدي)، وقد أبدع باختيار العينين ويمين يديه، ولو قدّرنا أن أخاه قد سمع هذه الرثاء لكان: (هو الغانم الجذلان) بهذا الرثاء حين يؤوب:
فَلَوْ كَانَتِ الدّنْيا تُبَاعُ اشْتَرَيْتُهُ،
بِمَا لَمْ تَكُنْ عَنْهُ النّفوسُ تَطِيبُ
بِعَيْنّي أَوْ يُمَنَى يَدَيّ، وقيلَ لي:
هُوَ الغَانِمُ الجَذْلاَنُ يَوْمَ يَؤُوبُ
- لقد كانت قصيدة ملحمية، أراد فيها من القارئ أن يشاركه الحزن كما طالب الصبح والليل من قبله، وأراد أن يقول لنا إن حزنه يفوق كل أحزان الأخوة على إخوتهم، إذ كان يبكي أخًا لا يتكرر، وأسبغ عليه صفات الكمال الأسطوري، التي تحوله إلى صورة ملحمية أقرب للكمال الذي لا يشبه نقص البشر.
** **
- د.منال بنت فهيد آل فهيد