من الشائع عن الفرنسيين أنهم لا يعرفون الاستحماء بالماء، ولذا هم أكثر الشعوب اهتماماً بالعطور والروائح، وهذا يعني اهتمامهم بالمظهر الخارجي فقط، الله أعلم عن حقيقة هذه المعلومة الدارجة بين الناس، وقد قرأت ذات مرة عن الأديب أنيس منصور- رحمه الله-، أن بعض الفنانين والأدباء المصريين تأثروا بهذه الثقافة الفرنسية، وكان أحد أشهر المطربين المصريين في العصر الحديث لا يستحم بالماء بل يغمس قطعة أو كرة القطن في الكحول أو الكانوليا ثم يقوم بدهن جسده بها!!.
في عام 1985م ، صدرت رواية للكاتب الألماني باتريك زوسكيند بعنوان العطر، وهي رواية تتحدث عن شاب يمتلك قدرات خارقة في حاسة الشم، وفي هذا العام فازت رواية تغريبة القافر للروائي العماني زهران القاسمي بجائزة البوكر العالمية والتي تتحدث عن شاب يمتلك قدرات خارقة في حاسة السمع، وتحديداً سماع صوت الماء واقتفاء أثره، ولذا سمي بطل الرواية بالقافر.
يولد الطفلان في ظروف غامضة وصعبة، حيث يفقد الوليدان الأم، حيث يتربى القافر في أحضان قريباته بينما يتربى صانع العطور في ملجأ الأيتام واللقطاء، القصتان تنبعان من عمق البيئة المحلية، فتغريبة القافر تعكس أجواء البيئة العمانية وأفلاج المياه بينما تعكس رواية العطر علاقة المجتمع الباريسي بالعطر وجنونهم بالروائح.
تبدأ قصة العطر وتتحدث عن القذارة التي وصلت لها مدينة باريس ، حيث النفايات مكدسة في كل مكان، ويبدو أن انكباب الناس على سبل معيشتهم قد جعلهم في حالة تعود مع هذه الروائح الكريهة، تبدأ القصة من سوق السمك حيث تتسلط النتانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى على الناس، وفي أجواء تلك القذارة تحس إحدى بائعات السمك بدنو الطلق وقرب خروج الطفل القادم من السفاح، فتنزل قليلاً عن كرسيها وتبدأ بتوليد نفسها، وحينما يخرج الطفل تقوم بقطع الحبل السري ثم رميه في سلة النفايات، يستمع الناس إلى صراخ الطفل المتشبث بالحياة، ويبدأون بالتلفت بحثاً عن صاحب الجريمة، وبكل سهولة تقع أعينهن على الأم الهاربة فيتبعوها حتى يتم إلقاء القبض عليها، فيحكم القاضي تجاه فعلتها بالإعدام، ويتم تسليم الطفل إلى ملجأ الأيتام واللقطاء.
بينما تبدأ تغريبة القافر بنمطية سينمائية بديعة، جغرافيا ريفية عمانية، جمل الحوار موغلة في الشعبية المحلية، الاستهلال الروائي ينشأ عن رجل يضرب الأرض بخطواته المتسارعة صارخاً عن غريقة وجد جثتها في أعماق الجب، وهنا يتسارع الأهالي نحو البئر ومعها تتسارع دقات قلوبهم استفساراً عن هوية الغريق، هل هو من أهل القرية أم أجنبي عنها؟ ، هل مات الغريق غدراَ بدافع الانتقام أم زلت به القدم وسقط في جوف
البئر؟.
يتمكن الناس من انتشال الجثة ويتم التعرف عليها، هي إحدى سيدات القرية ولكن أثناء غسلها وتجهيزها للدفن تكتشف إحدى النساء وجود طفل حي بين أحشاء الغريقة، وهنا يكثر الجدل حول كيفية التعامل مع الأمر، لكن إحداهن استلت سكيناً وتجرأت ببقر بطن الميتة واستخراج ذلك الطفل الذي سيصبح بطل هذه الرواية الخيالية، سالم بن عبدالله الملقب بالقافر، أي الذي يقتفي أثر الماء،، بعد ذلك يعود الروائي بذكائه إلى شرح حالة هذه الأم الغريقة، والتي كانت مبدعة في خياطة وتطريز ملابس أهل القرية، ثم أصابها مرض الصداع المزمن والذي عجزت عن إيجاد أي علاج سوى أن تدخل رأسها في جرة الماء الكبيرة حيث تجد عافيتها هناك إلى أن وجدت صوتاً غيبياً يناديها فتحركت باتجاهه نحو البئر حتى سقطت في ظلماتها علها تجد راحتها في أعماق تلك المياه السحيقة!!.
نعود إلى قصة العطر، هناك في ملجأ الأيتام حيث يتعرض الطفل الخارق والمنبوذ إلى محاولة قتل من أقرانه، وتنمو معه موهبته الخارقة في شم الأشياء بصورة مدهشة، وعندما يبلغ بطل الرواية أشده يتم بيعه مثل العبد إلى تاجر دباغة، ثم تشاء الصدف أن يتقابل مع صانع عطور طاعن في السن، بدأت تجارته تكسد في ظل المنافسة المحتدة بين صانعي العطور في فرنسا، يبدأ البطل باستعراض مواهبه الفذة أمام خبير الروائح فيعجب به ، ويتفق الاثنان على العمل معاً، وهناك يتعلم البطل كيفية التقطير المستخلص من روائح الزهور، كان الفتى الخارق يحلم أن يسيطر على جميع روائح العالم.. بدأ البطل يلاحق فتاة في أزقة المدينة من أجل الرائحة التي تنبعث من جسدها وتصيبه بالذهول، وعندما تصرخ الفتاة يحاول البطل أن يغلق فمها بيده لكيلا تلفت انتباه المارة في الطريق، وبعد أن يتأكد من خلو المارة يتفاجأ أن الفتاة قد ماتت بين يديه، وعلى الرغم أن هذه الميتة قد حصلت بدون قصد منه إلا أنه كانت بداية لسلسلة من جرائم قتل حوالي 12 فتاة عذراء من أجل قص شعرهن وإجراء عملية التقطير لاستخلاص الرائحة الجسدية منهن لتكتمل قارورة العطر السحرية!!.
ومع جريمة القتل الأخيرة، تتمكن الشرطة من إلقاء القبض عليه والحكم عليه بالإعدام شنقاً، وأثناء توجهه إلى المقصلة كان الشاب قد ارتدى أغلى الملابس الثمينة وتعطر من قارورة العطر السحرية، بدأ الحضور بالتأثر من الرائحة، ثم تحول المشهد إلى حالة من ذهول الحضور من هذه الرائحة الخطيرة، حيث يبدأ الناس بحالة من السعار والمجون والعربدة الجماعية بفضل سكرة العطر، يغادر الشاب المكان ويتجه لا شعورياً نحو سوق السمك، مكان ولادته الأول وهناك يفرغ كامل القارورة على جسده، مما يحوله إلى ملاك في أعين الحضور وجلهم من الفقراء والمعربدين الذين بدأوا بالهجوم عليه والانجذاب إلى تلك الرائحة التي لا تقاوم، يبدأ الجميع بنهش جسده قطعة قطعة، حيث لم يتبق بعد ذلك سوى ملابسه وقارورة العطر الفارغة!!.
أما في تغريبة القافر فيكبر الطفل سالم عبدالله، القافر وتكبر معه خارقيته في سماع صوت الماء تحت طبقات الأرض ومعرفة مكامنه الباطنة، ولا شك أن القارئ أثناء تناوله لهذه الرواية سيشعر أن الفكرة المحورية تدور حول مركزية الماء كما هو العطر الذي تتمحور عليه رواية صانع العطور، فالماء في التغريبة هو العامل المشترك في العقدة الرئيسية وفي كافة العقد الثانوية التي تمتلئ بها أحداث الرواية، أما سردية الرواية فلا شك أن الكاتب من خلال خبرته قد أبدع في سردية الأحداث بصور متدفقة كسريان الماء حتى تصنع الدهشة في نفس القارئ، وربما يكون الكاتب قد اتخذ من منهجية القمة والقاع أثناء تناول ثنائية العقدة والحل في تسريد أحداث الرواية المائية حتى تصبح أكثر شغفاً وحيوية في مجرى الأحداث.
الحقيقة أن الروايتين خلقتا في نفسي عظيم الدهشة، وهنا حصلت في داخلي نوع من التساؤل حول الروائي زهران القاسمي، هل قرأ إبداعية العطر وتأثر بها من خلال خارقية الحواس أم أن هذا التلاقي هو محض صدفة؟ ، لقد أعجبتني الروايتان لأنهما تعبير عن جغرافيا معينة وتصوير للمكان بصورة مدهشة، بالنسبة لتغريبة القافر فقد أدهشتني في قراءتي الأولى لها وأعتبرها إنجازا في تاريخ الرواية العربية، كما أنها تمثل تطوراً في نمطية السرد ومنهجية الحبكة الروائية، والحق أنها تصلح أن تتحول بامتياز إلى فيلم سينمائي يترجم إبداع الكتابة الروائية وسيكون عملا استثنائياً إذا اكتملت أركانه الإبداعية.
النقطة التي أخذتها على الرواية هو بعض ألفاظ الحوار الموغلة في الشعبية المحلية الدارجة في الريف العماني والتي يستعصي فهمها على القارئ العربي، صحيح أن ذلك من حق الروائي في استخدام اللغة الدارجة في سردية الحوار لكن هذه الرواية قد تحولت الآن إلى أيقونة للإبداع العربي وينبغي شرح تلك الألفاظ والعبارات الشعبية أوتحويلها إلى لغة فصحى.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814