د. شاهر النهاري
لماذا نقول عن نص كتابي بأنه بديع، ونقول عن غيره بأنه لم يبلغ الإبداع؟
حجم النص لا يكون السبب ولا المعضلة، فلكل نص من يقف عنده ويقدره ومن يشتريه، سواء كان رواية متعددة الأجزاء، أو أنه تقلص ليأتي على شكل تغريدة أو شعر هايكو.
والقارئ المتذوق يعتبر جزءاً مهماً من جودة النص الإبداعي، فإذا لم يكن ممن يقرأ بعينه ويدرك أصول المشاهدة السطحية، فسيصعب عليه التمكن من التعمق، والتأمل، والتحليل الذاتي، ولن يعطي النص حقه، وربما يتأثر بأقوال المختصين أو من يهرفون بما لا يعرفون، ما يجعله مرجوحة ترفع نصًا إلى درجات لا يستحقها، وربما تخسف الأرض تحت أبراج سمو نص لم يتمكن المتلقي من بلوغ جمالياته وعمقه ومعانيه، وحرفية ومغازي من أبدعه.
نوعية الكتابة قد تجذب نحل أنواع من القراء وحسب هوى النفس، وممن يجدون الإبداع أقراص عسل لذيذة واضحة في كينونة النص، شعراً كان أو سرداً أو نثراً أو مجرد خاطرة تقفز على أسوار السطور.
ومسمى الكاتب المشهور جرس وفرس، قد يعطي للمتلقي تمهيداً وأرضية وتوقعات، وقد يضفي على النص بعض الخواص والوهج، وقد يخدع ويؤطر المعاني صروحاً تمتثّل فوق أبراج المثقفين العاجية، وربما يلتوي منعكساً، فينقص من جماليات النص، أو يجعل القارئ يوصمها بما ليس منها، رغبة منه في تبوء كرسي النقد ومنبر الظهور.
لغة النص الإبداعي أيضاً متنوعة، فقد يكون فصيحاً ممتنعاً، وقد يكون شعبيا كدر، وقد تختلط فيه اللغات والإشارات، ما قد يخسف أو يجذب ويخصص أوعية المتلقي، لبلوغ الأكثر قدرة وشمولية، وتغيير كراسي المبدعين.
الإبداع يعني أن النص يمتلك معطيات وخواص القدرة على لفت النظر، والجذب حد الطرب، بهبة تحريك المشاعر، ورسم دوائر ومفاتيح تشغيل العقل، وإنعاش العواطف، والعودة للعمق الزماني المكاني، وتكسير الأقفال، وخطف كنوز فكرة بكر، تصنع يوم القارئ، وتهبه مراده، مهما كان الغموض ينبض من بين سطورها.
الإبداع حبال سحر تحيط بعقل ومشاعر القارئ، ليجد نفسه إما مربوطاً بمعاني النص، أو مشغولاً برنينه، أو مسحوراً بجمالياته وغموضه، أو أنه متحول متحرك يلتهم الحيات بعصاته، وبما يضفيه على الروح من سعادة، أو غموض، أو حزن، أو ثقة بتخطي عباب البحر المشقوق.
الإبداع نقيض التسطيح في المعاني، وعدو التذاكي وضد تكلفة التراتبية والاستخفاف بعقلية ومشاعر القارئ، وهو عدو المط، وإصرار الكاتب على خلق إبداع مصطنع، وبحيل وشروح وادعاءات تدل على أن المنشئ لا يمتلك النظرة الساحرة والتجدد، ولا يبني القمم فوق أساسيات الإبداع، ولا يعلي مراتبه وبراءته، والتي يكون أولها الموهبة الكتابية تعصر جبهة الأنامل، وأعلاها التوفيق في اصطياد وترويض مهرة الفكرة الحرة البريئة، وامتشاق سرج المتن المرتفع، وبلوغ خطوط الفوز بإعجاب القارئ، الذي يشعر بامتزاج حميم مع النص وكأنه هو من كتبه، ومهد طريقه ومن صنع تعرجاته، وأوجد في فكره السبل والأعذار لجعله مهرجان قوس قزح بديع ينير فوق قمم جبال الغيم.
المنشئ للإبداع النصي هو خياط متمكن في جر خيوط القارئ معه وحبس أَزْرَار أنفاسه في غرز الحبكة، وحمله معه لملامسة حوافظ ذكريات الماضي مهما هامت، والنقر على أوتار أضلاعه، واستطعام نبرات مشاعره، وآهاته، وحصر أزماته، وانفراجاتها، وتصيد لحظات حضن السعادة، ما يجعله ينزلق في حلزونة، ويعود من نشوته بعد بلوغ القاع، ليعيد رسم القمم وسط كريستالات الثلوج المبهجة.
النص الإبداعي يتميز بالبدايات الجاذبة، والتسلسل الذكي المنعش، والأسئلة المدركة للحدود والخطوط، والإجابات الذكية، والرقص بين السطور بولع ودلع، وسط زخات مطر سيول أفكار تكسو الخطوات، وتلهي الهامات، بتهيئة القارئ للذة التلقي ثم الاستعادة، قبل أن يبلغ النهايات المفتوحة الفكر، وحتى يستمر دوران روعة الدنيا، وتجدد العجب، والعزف على أوتار الحواس، ليس بلحن واحد، ولكن بمختلف الحان الوجود والخلود، المليئة بجماليات وتوزيعات الغموض المحرك للمشاعر، وليس المبالغ في حفظه وتسريبه بين غياهب الشقوق حد الخلل، وحد الملل، وحد القطيعة مع حلقات سلسلة النص، وتهميشها.
النص الإبداعي منتوج طازج متصل منفصل، وقد يجد من يشتهيه، ومن يرفضه، ومن يزيحه بدون اكتراث، وقد يجد من ينتقد تنوعه، ومن لا يفهمه، ولا يستسيغ عذوبته، ومن يستطعم مرارته، وكل ذلك يعتمد على محصلة أصوات أغلبية ممن يروقهم ويحبونه ويصافحون حروفه شوق واحترام، ويزيدونه تعمقا بمديح وإشادة، وربما يكبره من لم يستطبه، حين يظن أن مجرد المديح للنص، يعلي قيمة تذوقه، ويكثف ثقافته، ويبرز سمو نفس إعجابه، وكثير يتحزبون بأسباب لا تمت للنص بواقع، ما يجعلهم يستنكرون ويرفضون أي عمليات نقد يرونها غير منطقية، ويصورونها محاولات إساءة للنص وكاتبه، فكأنها سهام توجه لوجوههم، وشخوصهم، وثقافتهم.
النص الإبداعي قد يحدد وجوده وجودته أكاديمياً بواسطة النقاد، وكم يساعد الإعلام والمسابقات والجوائز في تثبيت قيمته، فكم من نص ارتقى بكلمة، وكم من نص وئد بعصبية أو غفلة وإهمال.
ولكن إعجاب الأغلبية بالنص، أولئك الذين أشعرهم بقربه من أنفاسهم، حتى ولو لم يكونوا من الأكاديميين، ولا من الإعلاميين تعتبر الوسيلة الأمثل لتأطير وتثبيت جودة إبداعه، والتي يمكن قياسها من خلال الحراك الثقافي الشعبي، والاستبانات البحثية العمياء الصادقة، والتي لا تعتمد على الهوى أو ما تكتبه العنصرية لشخص الكاتب أو ضده من دعايات زائفة.